الغشّ بجميع صوره ظاهرةٌ اجتماعيّة خطيرة، يقوم فيها الكذب مكان الصدق، والخيانة مكان الأمانة؛ ويحرص الغشاش على إخفاء الحقيقة، وتدليس الواقع، وتزيين القبيح؛ وهذا السلوك لا يصدر إلا من قلبٍ غلب عليه الهوى مقام الرّشد، وانحرف عن المنهج الإسلامي القويم.
ومن مظاهر الغش إخفاء العيوب والتدليس؛ فيكون الظاهر أفضل من الباطن، كما جاء في موقفٍ سجّلته لنا السيرة النبوية الشريفة عن نبي الهدى محمد –ﷺ- أنه مرّ على السوق ورأى صُبْرَة طعام (كومة بلا كيل ولا وزن)، فأدخل -عليه الصلاة والسلام- يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: « ما هذا يا صاحب الطعام؟» ، قال: أصابته السماء (المطر) يا رسول الله، فقال-ﷺ-: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني» وفي رواية لمسلم: «من غشنا فليس منا» .
لقد أُعجب رسول الله –ﷺ- بالطعام -جاء في المستدرك أنها من الحنطة- فأدخل النبي عليه الصلاة والسلام يده الشريفة إلى تلك الكومة فإذا مبتلّةٌ؟! هنا استدار النبي -ﷺ- إلى الرجل، وألقى عليه سؤال المعاتب: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» ، فقال الرجل: ” أصابته السماء يا رسول الله”، وكأنه يريد أن يعتذر ولكن بما لا يُعتذر به؛ فهو أمام رسول رب العالمين، ومعلّم البشريّة، ومتمّم الأخلاق، الذي ما كان له -ﷺ- أن يتغاضى عن موقفٍ كهذا، وليس موقف مجاملات أو صفحٍ عن خطأ فردي، ولكنّه ترسيخ مبدأ عظيم يحفظ حقوق الناس ويصونها من العبث والغش والتدليس فقال -ﷺ-: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشنا فليس منا».
حقيقة الغش ودلالته
حقيقة الغش هو تقديم الباطل في ثوب الحق، الأمر الذي ينُافي الصدق المأمور به والنصح المندوب إليه المسلم، وعلاوةً على كون الغش معصيةً صريحة لله ورسوله، وأكلاً لأموال الناس بغير حق، فهي كذلك سببٌ في ضياع الذمم، وانعدام الثقة وإشاعة البغضاء، وقريحة الغشاشين ممن لا خلاق لهم لا تنضب من ابتكار صورٍ جديدة للغش في كلّ عصرٍ وبلد، فتضيع حقوق الناس ويعطى الحق لغير مستحقه، ويطمس العدل والإنصاف، وتزرع الأحقاد في المجتمع وتقوض أركانه.
إن مفهوم الحديث «من غشنا فليس منا» أوسع في دلالته من تحريم الغش في مجال المعاملات المالية (البيوع) فحسب، فقد خرج مخرج القاعدة الشموليّة التي تخاطب جميع أنواع المعاملات الحياتية، فيكون الغشّ؛ في غش العلم والتعلم (الدراسة)، والغشّ في الزواج والعلاقات الاجتماعية، أو منافاة الأمانة في التبيان، والغشّ في النطاق الوظيفيّ (العمل) بما يحقّق المصالح الشخصيّة على حساب الآخرين، والغش التزييف والخداع التقني، والغش في التسويق والترويج الباطل، وشهادة الزور والبهتان والكذب وكتمان الحق، والغش في حق الله وحق الرسول وحق القرآن وأئمة المسلمين وعامتهم ؛ كما بين رسول الله حين قال-ﷺ-: «الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» والنصيحة هي الإخلاص في الشيء والعناية به، والحرص على أن يؤدى كاملًا تامًا لا غش فيه ولا خيانة ولا تقصير.
والعلاج لمثل هذا الداء العضال يكون بإحياء جانب المراقبة الذاتية وإيقاظ الضمائر لدى الأفراد والخوف من عقاب الله في الدنيا والآخرة ؛ فيعلم كل فردٍ أن الغش جميع صوره منهى عنه ومحرم، وأنه سحت، ويمحق البركة، وأن الله سوف يحاسب كل غشاش بمثقال الذرة ، ويتزامن ذلك مع العقوبات الرادعة من كل ذي سلطان لكل من سوّلت له نفسه الغش والتدليس وخيانة الأمانة فـ”إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.
صحّ عن نبينا محمد -ﷺ- في الحديث المتفق عليه أنه قال: « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فلا يكتمل إيمان المرء حتى يُعامل كل فردٍ من أفراد المجتمع غيره بما يُحبّ أن يُعاملوه به، فكما لا يرضى الغش والخديعة والاحتيال والتدليس على نفسه فكيف يرضاه للآخرين؟!
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبة أجمعين.