قالت قريشٌ للنَّبيِّ ﷺ ادعُ لنا ربَّك يجعَلْ لنا الصَّفا ذَهَبًا فإنْ أصبَح ذَهَبًا اتَّبَعْناك فدعا ربَّه فأتاه جبريلُ -عليه السَّلامُ- فقال إنَّ ربَّك يُقْرِئُك السَّلامَ ويقولُ لك إنْ شئتَ أُصَبِّحُ لهم الصَّفا ذَهَبًا فمَن كفَر منهم عذَّبْتُه عذابًا لا أُعَذِّبُه أحَدًا مِنَ العالمين وإنْ شئتَ فتَحْتُ لهم بابَ التَّوبةِ والرَّحمةِ قال: بَلِ بابَ التَّوبةِ والرَّحمةِ [الراوي ابن عباس رضي الله عنهما]
لقد ضرَبَ النبيُّ ﷺ أرْوَعَ الأمثلةِ في الصَّبرِ على دَعوتِهِ، وما لاقاهُ مِن إيذاءِ الكفَّارِ، وعَنَتِهم وطَلبِهم الآياتِ والمعجراتِ حتى يُؤمِنوا بالرِّسالةِ، ومع ذلك فقد كان يدْعو اللهَ أنْ يَهدِيَهم، وأنْ يُخْرِجَ مِن أصْلابِهم مَن يَشْهَدُ بالتوحيدِ (لا إله إلا الله).
وفي هذا الحديثِ يَقولُ عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: “قالتْ قُريشٌ للنبيِّ ﷺ: ادْعُ لنا ربَّك يَجْعَلْ لنَا الصَّفا ذَهَبًا”، والمعنى أنْ يُحَوِّلَ جبَلَ الصَّفا وحِجارتَه إلى ذَهَبٍ خالصٍ؛ مُعجِزةً، وعلامةً وحُجَّةً على نُبُوَّتِه، وسُمِّيَ (الصَّفَا) بهذا الاسمِ؛ لأنَّ حِجارتَه مِن الصَّفَا، وهو الـحَجَرُ الأملَسُ الصُّلْبُ، ويقَعُ في أصلِ جبَلِ أبي قُبَيسٍ، “فإنْ أصبَحَ ذَهَبًا اتَّبَعناك” وآمنَّا بك وبرِسالَتِك، “فدعا ربَّه” بما طلَبُوه؛ لعلَّهم يُؤمِنون، “فأتاهُ جِبْريلُ -عليه السلامُ-، فقال: إنَّ ربَّك يُقرِئُك السلامَ”، أي: يُحَيِّيك ويُلْقِي عليك تَحِيَّةَ السلامِ، “ويقولُ لك: إنْ شِئْتَ أصْبَحَ لهم الصَّفَا ذَهَبًا؛ فمَن كفَرَ منهم عَذَّبتُه عذابًا لا أُعذِّبُه أحدًا مِن العالمينَ”؛ وذلك لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد أنْفَذَ لهم ما طلَبُوه، وهو مِن قَبِيلِ الـمُعجزةِ، فحَقَّ عليهم أنْ يُؤمِنوا، وألَّا يَستكبِرَ منهم أحدٌ ويُعانِدَ في الإسلامِ، “وإنْ شِئتَ فتَحْتُ لهم بابَ التوبةِ والرَّحمةِ”، أي: أجْعَلُ لهم بابَ التوبةِ مَفتوحًا؛ لِيتوبُوا عن شِرْكِهم وكُفرِهم إذا تَبيَّنَ لهم الحقُّ والـهُدى بَدلًا مِن إهلاكِهم، فقال النبيُّ ﷺ: “بلْ بابُ التوبةِ والرَّحمةِ”، وهذا مِن حُسْنِ خُلُقِ النبيِّ ﷺ، ومَحبَّتِه لهِدايةِ الناسِ، وصبْرِه عليهم؛ لعلَّ اللهَ أن يَهْدِيَهم، أو يُخْرِجَ مِن أصْلابِهم مَن يَعبُدُ اللهَ ولا يُشرِكُ به شيئًا، وهذا أيضًا مِن حُسْنِ ﷺ على أمْرِ اللهِ .