«حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ»

  • — الجمعة سبتمبر 06, 2024

قال النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول -وأهوى النعمانُ بإصبعَيه إلى أُذُنَيه- : «الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ». رواه البخاري ومسلم (رحمهما الله).

هذا حديث عظيم جليل، له معانٍ عظيمة، حتى جعله بعضُ أهل العلم ربع الدين فقالوا:

عمدة الدِّين عندنا كلمات.. أربع من كلام خير البرية
اتَّقِ الشبهات وازهد ودع.. ما ليس يعنيك واعملن بنيةٍ

هذا الحديث هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام؛ فهو أصل من أصول الشريعة، وهو من جوامع كلمه ﷺ، حث فيه النبي ﷺ على الورع، وترك المتشابهات في الدين، وبين أن الحلال ظاهر واضح، وهو كل شيء لا يوجد دليل على تحريمه؛ من كتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس؛ وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وكذلك الحرام ظاهر واضح، وهو ما دل دليل على تحريمه، سواء كان هذا الدليل من الكتاب، أو من السنة، أو من الإجماع.

وبين أن بين الحلال والحرام قسما ثالثا، وهو المشتبهات، وهي الأمور التي تكون غير واضحة الحكم من حيث الحل والحرمة، فلا يعلم الكثير هل هي حلال أو حرام، ويدخل في ذلك جميع الأمور المشكوك فيها؛ مثل: المال المشبوه أو المخلوط بالربا، أو غيره من الأموال المحرمة، أما إن تأكد أن هذا من عين المال الربوي، فإنه حرام صرف دون شك، ولا يعد من المشتبهات، وقس على ذلك بقية الأمور.

ثم أوضح ﷺ أن من اجتنب المشتبهات فقد طلب البراءة لنفسه، فيسلم له دينه من النقص، وعرضه من القدح والذم والسمعة السيئة، أما من وقع في الشبهات واجترأ عليها، فقد عرض نفسه للخطر، وأوشك على الوقوع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى، وهو: المكان الذي جعله الملك لرعي مواشيه، وتوعد من رعى فيه بغير إذنه بالعقوبة الشديدة؛ فالراعي حول الأرض التي حماها الملك لنفسه، وجعلها خاصة له، قد تدخل ماشيته في الحمى، فيستحق عقوبة السلطان، كذلك من يتهاون بالشبهات، فإنه على خطر؛ لأنها ربما كانت حراما، فيقع فيه، وأنه ربما تساهل في الشبهات فأدى به ذلك إلى الاستهتار واللامبالاة، فيقع في الحرام عمدا؛ فإن الشبهة تجر إلى الصغيرة، والصغيرة تجر إلى الكبيرة، نسأل الله السلامة.

ثم قال ﷺ: «ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضة محارمه»، أي: إن حمى الله هي المعاصي التي حرمها على عباده، فمن دخل حماه بارتكاب شيء من المعاصي هلك، ومن قاربه بفعل الشبهات كان على خطر.

ثم ذكر النبي ﷺ كلمة جامعة لصلاح حركات بني آدم وفسادها، وهي أن أساس صلاح الجسد كله وأساس فساده مبني على صلاح القلب وفساده؛ فإذا صلح القلب صلحت إرادته، وصلحت جميع الجوارح، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله، واجتناب سخطه، فقنعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها، وانبعثت في معاصي الله عز وجل، وما فيه سخطه، ولم تقنع بالحلال، بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق.

ويستفاد من الحديث أنه ينبغي للمؤمن التورع عمَّا يشتبه، والحذر منه، وأن تكون أعماله على بصيرةٍ؛ في مأكله، ومشربه، وغير ذلك على بصيرةٍ، إذا اشتبه عليه الأمرُ توقف عنه حتى يتَّضح أمره، وأن القلب هو الأساس، فمتى صلح صلح الجسد، فالعبد متى عمَّر قلبه بالتقوى، والخوف من الله، وخشية الله؛ استقامت الجوارح، وإذا خرب القلب بالشكوك والأوهام والمعاصي ؛ فسدت الأعضاء -نسأل الله العافية.

وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.