أدت الابتكارات الحديثة نسبيًا في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات إلى عالم أكثر ارتباطًا، والذي يؤثر الآن بشكل متزايد على القطاع الزراعي؛ ففي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استخدم لأول مرة في الوثائق الرسمية المتعلقة بالزراعة مصطلحي “تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ICT” أو “الزراعة الإلكترونية E-Agriculture“؛ تتمثل في تيسير المناقشة حول تبني واستخدام تقنية (تكنولوجيا) المعلومات والاتصالات، والابتكارات الرقمية في الزراعة، والغابات، ومزارع الأسماك، وإدارة الموارد الطبيعية، والتنمية الريفية؛ وفي الوقت نفسه، كان هناك وعي متزايد بالقضايا المتعلقة بالاستدامة، وقطاع الأغذية الزراعية، من حيث الأبعاد البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
التجربة الأوروبية
مولت المفوضية الأوروبية شبكة (ERA-NET) التابعة لبرنامج تقنية المعلومات والاتصالات الزراعية (ICT-AGRI)، بهدف تطوير وتعزيز منطقة الأبحاث الأوروبية من خلال تسهيل المبادرات العملية وتنسيق برامج الأبحاث الإقليمية والوطنية والأوروبية في مجالات محددة، مثل: مجال الزراعة الدقيقة المتنوع، وتطوير برنامج بحثي أوروبي مشترك بشأن تقنية المعلومات والاتصالات، والآلات المبرمجة في الزراعة، ومتابعة الدعوات القائمة على التمويل من برامج الأبحاث الوطنية للدول المشاركة.
ونُشرت البرنامج البحثي الإستراتيجي الذي حدد ستة تحديات مستقبلية رئيسة، وثلاثة عشر هدف رئيسي لمواجهة هذه التحديات، وثمانية اتجاهات حديثة في هذا المجال، وتسعة تحديات تواجه تبنيها. (انظر الجدول)
وبما أن تقنية المعلومات والاتصالات الزراعية (ICT-AGRI) تغطي جميع أنواع الزراعة، فقد وُضعت الأهداف في سياق قطاعات مختلفة لكل من الإنتاج النباتي والحيواني وكذلك مجالات الإدارة الشاملة: كإدارة المزرعة بشكل عام، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والزراعية اللاحقة. وهذا التطور في قطاع الزراعة والأغذية من المتوقع أن يعالج -جزئياً- التحديات البيئية العالمية، وأن تحدث ثورة في القطاع؛ فتوفر البيانات، وخاصة البيانات الضخمة، هي مصادر دخل جديدة، وكذلك تعيد التوازن إلى قوة أصحاب المصلحة المختلفين في الزراعة والأغذية.
كذلك ستجلب هذه التغييرات تحديات جديدة، بما في ذلك الحاجة إلى سياسات ولوائح جديدة تتعلق بملكية البيانات، وآليات جديدة لتجنب آليات تجنب اتجاهات الاحتكار في الصناعات القائمة على المعلومات؛ فإذا كان للزراعة الرقمية أن تقدم حقاً حلولاً لمشكلات مثل: التأثير البيئي للإنتاج الزراعي، فإن أحد أكبر التحديات هو تبني تقنية المعلومات والاتصالات الزراعية.
إضافة قيمة للمزارعين ومنتجي الأغذية
لن يزداد استخدام التقنيات الجديدة إلا إذا قُدمت قيمة واضحة للمزارعين وغيرهم من منتجي الأغذية، وسلاسل الامداد، وكان جميع أصحاب المصلحة قادرين على التكيف مع هذه التغييرات. فعلى الرغم من تشجيع الدول تبني النظام لسنوات عديدة، إلا أن تبنيها لا يزال منخفضاً حالياً حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ على سبيل المثال، قلة الاتصال بالإنترنت وقلة استخدم أجهزة الحلب، وغيرها.
وتقدم هذه الورقة “استراتيجية بحثية وابتكارية من أجل نظام زراعي -غذائي مستدام“، نظرة عامة على الحالة الحالية للزراعة الرقمية (وبدرجة أقل نظام الغذاء الرقمي)، وخارطة طريق-يمكن الاسترشاد بها-، ومجموعة من العلامات الإرشادية للتنمية المستقبلية، وتمويل الزراعة الرقمية في الاتحاد الأوروبي حيث يصف الوضع الراهن والاتجاهات في أنظمة الزراعة والأغذية، فضلاً عن تحديد التحديات الفعلية والمستقبلية التي تعمل كحواجز أمام المزيد من اعتماد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتقنيات الرقمية من قبل القطاعات المعنية. كما تهدف أيضاً إلى أن تكون مرجعًا لأولويات البحث والمشاريع للسنوات العشر القادمة في تمكين استخدام التقنيات الجديدة لأنظمة غذائية وزراعية تنافسية ومستدامة وصديقة للبيئة.
رؤية لنظام زراعي غذائي مستدام
ركزت شبكة تقنية المعلومات والاتصالات الزراعية وغيرها من التمويلات على المشاريع المتعلقة بإنتاج الغذاء على مستوى المزرعة، رغم أن الموردين والمصنعين وتجار التجزئة والأسواق والمستهلكين لديهم أيضًا تأثير كبير على أنظمة الإنتاج وسلاسل الامداد؛ فهناك تحول علمي وتوجه رسمي متزايد نحو التعامل المتكامل مع نظام الأغذية الزراعية ككل، وليس مجموعة من الأجزاء المنفصلة كل على حده.
فلا يمكن تحقيق المكاسب المحتملة التي توجد من جمع وتحليل البيانات القائم على تقنية المعلومات والاتصالات الزراعية، وتنفيذ التقنيات الدقيقة بالكامل إلا عندما يتم التعامل مع نظام الأغذية الزراعية كله وديناميكياته واستجابته ككل؛ مما يسمح بآليات التغذية الراجعة والتعلم من تفضيلات المستهلكين والمصنعين ذات التأثير في ممارسات المنتجين الأساسيين، التي يمكن أن تؤثر بدورها في المنتجات التي طورها موردو الزراعة (شركات البذور مثال).
ثم إنَّها تسهل آليات التغذية بالمعلومات من المزرعة -التي تشير إلى عمليات الإنتاج المحتملة، والكمية، والجودة، وتركيبة المنتجات الأولية- وتؤثر في الخطط القصيرة والمتوسطة الأجل للمعالجات اللازمة؛ ومن ثَمَّ تقليل المخلفات، وتعظيم كفاءة النظام بما في ذلك تحسين سلسلة التوريد من حيث الطاقة، والنفايات، والاستدامة الشاملة، وتسهيل إنتاج المنتجات النهائية ذات القيمة الأعلى.
إن تحليل البيانات عبر النظام كله لديه القدرة على التسبب في انخفاض كبير في المدخلات والانبعاثات مما ينبغي أن يسهم في الحد من البصمة البيئية للقطاع، وإن المعلومات المتعلقة بمصدر الغذاء، والانبعاثات المرتبطة بالمواد الغذائية المختلفة من شأنها أن تمكن المستهلكين من المساهمة الإيجابية في ذلك.
أيضًا النظر في الحواجز التي تمنع تبني التقنيات الجديدة من قبل المنتجين وغيرهم في سلسلة الغذاء، سيساعد منظور الأنظمة المتكاملة المذكور من خلال تسهيل تطوير نماذج أعمال جديدة تمامًا، وقد تكون الجهات الفاعلة في النظام -بخلاف المنتجين الأساسيين- على استعداد لتحمل (بعض) تكلفة التكنولوجيا الجديدة في مقابل الفوائد اللاحقة من تبنيها.
إن الفكرة تتلخص في استخدام نهج متعدد الأطراف في المشاريع، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وهذا النهج مهم أيضاً لضمان استفادة الجهات الفاعلة في مختلف مستويات النظام الزراعي الغذائي من التقنيات المتطورة على نطاق واسع. ويمكن وصف الأولويات الستة الرئيسة لتحويل هذه الرؤية إلى واقع على النحو التالي:
- الثقة والشفافية.
عادة ما يتم تفسير ذلك من منظور المستهلك فقط، ولكن هذا ينطبق على كل مرحلة وجزء من نظام الغذاء، من تفاعلات المزارعين مع شركات التكنولوجيا الزراعية، من عمليات تفتيش الأغذية، وشركات الأغذية، إلى ثقة المستهلك في جودة الغذاء الذي يتلقونه وقبوله اجتماعيًا. تلعب هنا تقنية المعلومات والاتصالات الزراعية دورًا مهمًا في جمع البيانات وتبادلها وتحليلها، بالإضافة إلى توفير الوسائل والأساليب اللازمة للتواصل بشأن الآليات التي يستخدمها النظام كله مع جميع أصحاب المصلحة، ويعد أمن البيانات أمرًا ضروريًا جداً لضمان ثقة المشاركين.
- التعاون في مجال البيانات (حاضنات المعرفة).
تعد عملية مشاركة (تقاسم) البيانات، وتوحيد البنية الأساسية للبيانات، وتمكين استخدام وإعادة استخدام البيانات مع احترام ملكية البيانات -بما في ذلك الاعتراف بأن المزارعين يمتلكون بياناتهم- والسرية الفردية أو التجارية، مجالات رئيسة للعمل المستقبلي؛ ينطبق هذا على المستوى الفني (تطوير حلول جديدة)، وعلى المستوى الاجتماعي/السلوكي من خلال ضمان تبني الجهات الفاعلة للتقنيات والسلوكيات (بما في ذلك العقود والتعاون) التي تمكن التعاون الأخلاقي المقدر والمستدام؛ فإن العمل في هذا المجال يحتاج إلى إشراك المزارعين والشركات والباحثين والحكومات (فتح البيانات العامة مجانًا يسهل تبادل المعرفة لإلهام الناس لتطوير الأفكار) لضمان توفر البنية الأساسية وأدوات البرمجيات ذات الصلة، ولا ينبغي أن ننسى دور الحكومة في ضمان بيئة تنظيمية تعزز التعاون في مجال البيانات والمؤسسات المناسبة.
- دعم أبحاث تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الزراعية ونقل التقنية.
بالمقارنة مع قطاعات مثل العلوم الحيوية، فإن الأبحاث في قطاع الأغذية الزراعية التي تتراوح من البذور ومدخلاتها عبر أساليب الزراعة، وإنتاج الأغذية، إلى النقل، والخدمات اللوجستية، وتجارة التجزئة، فضلاً عن التفاعلات الغذائية، التفاعلات البيئية تُعَد ضعيفة، وتوضح الورقة أن تمويل الأبحاث هو في الواقع أقل بمقدار مرتبة من القطاعات الصناعية الأخرى، ولا بد من بذل جهود أكبر لدمج البحث مع الابتكار والتبني حتى لا تضيع التطورات والإنجازات.
- البيانات والأمن السيبراني.
إن الخسارة المتكررة للبيانات، بسبب الهجمات السيبرانية والاحتياجات المتضاربة لتجميع البيانات مع فقدان أمان المعلومات، تخلق تحديًا أساسيًا للابتكار القائم على البيانات في نظام الغذاء بشكلٍ عام؛ إن الدفع نحو المزيد من التكامل والتعاون فيما يتعلق بالبيانات سوف يفشل ما لم يتم جعل الأمن السيبراني أولوية قصوى في البحث والابتكار والتغيير المجتمعي.
- التعاون والتواصل بين المستهلكين والمزارعين والمنتجين.
الوعي العام والمشاركة في نظام الأغذية يعتمدان على تثقيف الجمهور، وقبل كل شيء التواصل بين المزارعين والمستهلكين، ويمكن التوسط في ذلك أو تسهيله باستخدام التقنية، وتحتاج إلى مزيد من التعزيز.
- تدريب الجيل القادم.
التدريب والتعليم في مجال تقنية المعلومات والاتصالات الزراعية يجب أن يكون لجميع أصحاب المصلحة في نظام الأغذية الزراعية، وأيضًا التعليم والتدريب فيما يتعلق بالعواقب الاجتماعية والقانونية والبيئية وسياقات الابتكارات التكنولوجية؛ وهذا يعني أن الباحثين وأصحاب المصلحة يمكنهم الاستجابة على نحو أفضل للقضايا المجتمعية والبيئية التي يواجهها نظام الأغذية والزراعة.
وأخيراً، كل هذه الأولويات لابد من التعامل معها من منظور مفاده أن نظام الأغذية والزراعة يواجه حقائق (انهيار) المناخ، والتأثير الذي تخلفه الزراعة على البيئة، والحاجة إلى التكيف السريع مع الممارسات الزراعية في مثل هذا السياق، أن الزراعة، وإنتاج الغذاء، ونظام الغذائي بأكمله، ليست أنشطة منفصلة عن بقية الأنشطة البشرية، بل يجب النظر إليها باعتبارها أنشطة أساسية ومركزية، ومعالجتها بالأهمية المناسبة لها، وإن التحول إلى نظام غذاء ـ زراعي مستدام يحتاج إلى تقاسم المعرفة (حاضنة معرفة)، وتقنية معلومات واتصالات زراعية يكون لها دوراً محورياً لتحقيق الطموحات والتطلعات.
تعليق… القطاع الزراعي-الغذائي ما زال متأخراً في هذا الجانب، رغم الدعم والممكنات التي وفترها المملكة -حفظها الله- لهذا القطاع الحيوي المهم؛ فلا يزال هناك حاجة إلى حاضنة معرفة تسهيل تقاسم وتبادل المعلومات في القطاع وإلهام الناس للمشاركة وتطوير الأفكار والابتكار، كذلك إيجاد نظام مبتكر لتقنية المعلومات والاتصالات الزراعية يوفق بين أصحاب المصلحة في قطاع الأغذية والزراعة؛ وليس رقمنه للورق، وأتمتة للإجراءات غير الواضحة (سحابة) لا تخدم تطوير النظام البيئي المتكامل للقطاع الزراعي-الغذائي في المملكة؟!
ولعل ما في هذه الورقة (التجربة) ما يفيد القائمين على الزراعة والأغذية وأصحاب المصلحة والمهتمين، للتركيز على الممارسات العملية والفصل التام بين المستويات الإدارية (التشريعية، والتنظيمية، والتنفيذية) وعدم تداخلها؛ وفق حوكمة واضحة تضمن عدم تدخل التشريعي في العمل التنظيمي، ولا في العمل التنفيذي، والعكس، وتفعيل دور الأذرع التنفيذية (صناديق، مؤسسات، شركات) برسم خارطة طريق تنفيذية ببيانات كاملة حول جميع المشاريع والمبادرات والبرامج (تجميع الشتات) والتوفيق بينها، وإقامة الشراكات وإقامة الشراكات الناجعة بين الأشخاص المنخرطين في هذه المجالات من أجل الزراعة الغذائية المستدامة.
واللهُ مِنْ وراءِ القصد، وهو يهدي السبيلَ.