«من فضائل ومحامد النبي ﷺ»

  • — الثلاثاء سبتمبر 10, 2024

إن أحدًا من الناس مَهمَا علا فضلُه، واتسع عِلمُه وكَمُلَ عَقلُه، لا يستطيع أن يُحيط بمحاسن رسول الله -ﷺ-، ولا أن يستقصي أنواع كماله وألوان جَماله -ﷺ-، بل كلهم عاجز عن التعبير عن تلك المعاني المُحمديَّة، والصفات المصطفية، فالله تولَّى إقراءه فقال سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، وحفظ له ما أقرأه فقال: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾، وتولَّى تعليمَه فقال: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ۝ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ۝ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ۝﴾[الْقِيَامَةِ: 16-19]، وقال الله -عز وجل-: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۝﴾[النِّسَاءِ: 13].

وإن المقام المذكور في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الكهف: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾، لَيدلُّ على موضع الاعتبار في شأن هذا الرسول المختار -ﷺ-، الذي هيَّأه ربُّه وأهَّلَه، وأعدَّه وأمدَّه في روحه وجسمه وعقله وفَهمه وبصره، وسائر مَدارِكه وجوارحه وجوانحه، ووهَبَه التمكينَ لتلقِّي الوحي عن رب العالمين، والله -تبارك وتعالى- أمَر العباد باتباع نبيه محمد -ﷺ-، وجعل اتباعَه آيةَ محبتهم لله ورسوله فقال عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ۝﴾؛ وذلك باتباع أقواله وأفعاله وأحواله، وتعرُّف سجاياه الكريمة، وأخلاقه العظيمة؛ ليُتأسَّى به ويُتبَّع، ولا يُخالَف عن أمره ولا يُبتدَع، وحقّ حُبّ النبي -ﷺ- أن يكون فوق محبة النفس والآباء والأبناء والأزواج والعشيرة، والتجارة والأموال، ولا ريب أن أسباب المحبة ترجع إلى أنواع الجَمال والكمال والنوال، التي اجتمعت في مجمع صفات الكمال ومحاسن الخصال -ﷺ-، مَنْ أبدَع اللهُ -تعالى- صورته العظيمة، وهيأته الكريمة، وطوى فيه أنواع الحُسن والبهاء، والطُّهر والنقاء -ﷺ-.

وكلَّما زادت المعرفة بمحاسن المحبوب زادت المحبة له، وبذِكر شمائله -ﷺ- وسماع أوصافه ونعوته -ﷺ- تحيا قلوب المحبين، وتطرب أرواحهم وعقولهم، ويزداد حبهم ويتحرك اشتياقهم، وإن الله -تبارك وتعالى- خلق نبينا محمدًا -ﷺ- في أجمل صورة بشريَّة، وأكمل خلقة آدمية، وأجمعت كلمة واصفيه أنَّه لم يُرَ له مثيلٌ سابقٌ، ولا نظيرٌ لاحقٌ؛ فقد كان أحسنَ الناسِ خَلقًا وخُلُقًا، فلم يُر شيءٌ قطُّ قَبلَه ولا بعدَه أحسنَ منه ولا مثلَه -ﷺ-، فهو أجود الناس صدرًا، وأصدقهم لهجةً، وألينُهم عريكةً، وأكرمُهم عِشرةً، مَنْ رآه بديهةً هابَه، ومَنْ خالَطه معرفةً أحبَّه، إذا صمَت فعليه الوقارُ، وإذا تكلَّم سمَا وعلاه البهاءُ، حلو المنطق، كلامُه فصل لا نذر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، أبهى الناس وأجملهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، لا تشنؤه عين مِنْ طول، ولا تقتحمه عين مِنْ قِصَر، غصنٌ بين غصنين، فهو أندرُ الناس منظرًا، وأحسنُ قدًّا، إذا قال استمع لقوله، وإذا أمر ابتدر أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند، -ﷺ-، وكان رسول الله -ﷺ- منير الوجه مشرق المحيا، يتلألأ بالنور الباهر والضياء الزاهر، والبهاء الظاهر، فلو رأيتَه لرأيتَ الشمسَ طالعةً، فَخم مُفخَّم، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر -ﷺ-؛ فوجهه المشرق بالأنوار، والفيَّاض بالمعاني والأسرار، دليل ساطع وبرهان قاطع على أنَّه رسول الله حقًّا وصدقًا، حتى قال عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- لما تأمل وجهه واستبان طلعته أول مقدمه المدينة: “عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب” -ﷺ-، وكان عليه الصلاة والسلام أنظف خَلق الله بدنًا وثوبًا ومجلسا، أبيض مليحا مقصدا، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، كأن النور يخرج من فيه، يستاك عند دخوله وخروجه -ﷺ-، وكان مع جَماله متجمِّلًا، فكانت له حُلَّةٌ يَلبَسُها للعيدينِ والجمعةِ، وخرَج ذاتَ يوم إلى إخوانه فنظر في كوز من ماء إلى لُمَّته؛ -أي: شعره وهيئته-، وقال عليه الصلاة والسلام: “إن الله جميل يحب الجمال، إذا خرج أحدكم إلى إخوانه فليتهيَّأ في نفسه، وكان إذا وفَد عليه وفدٌ لَبِسَ أحسنَ ثيابه، وأمَر أصحابَه بذلك، ويحثّ على القصد والتؤدة وحُسن السمت والهَدْي الصالح -ﷺ-.

وأما صوته -عليه الصلاة والسلام- فكان غايةً في الحسن والإسماع، حسَن النغمة في صَحَل، -أي: كالبُحَّة في غير حِدَّة-، وإذا خطَب أسمَع العواتقَ في خدورهن، وكانت أم هانئ -رضي الله عنها- تسمع قراءته في جوف الليل عند الكعبة وهي على سريرها.

كان عليه الصلاة والسلام حلو المنطق حسن الكلام، إذا تكلم أخذ بمجامع القلوب، وسبا الأرواح والعقول، ويرى كالنور يخرج من بين ثناياه -ﷺ-.

وكان عليه الصلاة والسلام أفصح الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، وأوتي جوامع الكلم وبدائع الحكم، وقوارع الزجر وقواطع الأمر، والقضايا المحكمة، والوصايا المبرَمة، والمواعظ البالغة والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة والأدلة الساطعة، يتكلم بكلام فصل يفهمه كل من سمعه، ولو عده العاد لأحصاه، في كلامه ترتيل وترسيل، ويكره الثرثرة في الكلام والتشدق به، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا، لا يُخِلّ ولا يُمَلّ، إذا خطَب توكَّأ على عصا، فيَحمَد الله ويُثني عليه، في كلمات يسيرات خفيفات طيبات مبارَكات، وإذا خطَب اشتدَّ غضبُه وعلَا صوتُه واحمرَّت عيناه، كأنه منذرُ جيشٍ يقول: “صبَّحكم ومسَّاكم”، وإذا وعَظ أثَّر في قلوب السامعين، وطيَّب نفوسهم، حتى إنهم لَتذرِف دموعُهم وترقّ وتخشع قلوبهم، وترتقي الحالُ بهم إلى المشاهَدات والمعايَنات، قال العرباض -رضي الله عنه-: “وعَظَنا رسولُ الله -ﷺ- موعظةً وجِلَت منها القلوبُ، وذرفت منها العيونُ، فقلنا: كأن هذه موعظة مودِّع يا رسول الله؟ فماذا تعهَد إلينا؟ قال: أن اتقوا الله، وأن تتبعوا سُنَّتي وسُنَّةَ الخلفاء الهادية المهدية من بَعديّ، عَضُّوا عليها بالنواجذ، فإن كل بدعة ضلالة”.

ورسول الله -ﷺ- هو أوسع الناس علمًا، وأعظمهم فَهمًا، أفاض الله عليه العلوم النافعة الكثيرة، والمعارف العالية الوفيرة، فهو أعرفُ الخَلق بالله وأتقاهم له، بل هو أكثر الأنبياء عِلمًا وأشجعهم قلبًا، خرَج ذات يوم فصعد المنبر فقال: “سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بيَّنتُه لكم”، ومع ذلك كله فقد أمره الله أن يسأله الزيادة في العلم دائمًا أبدًا، قال الله -عز وجل-: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا۝)[طه:].

وقلب رسول الله -ﷺ- هو خير القلوب وأزكاها، وأوسعها وأقواها، وأتقاها وأنقاها، وألينها وأرقها، هو القلب الواعي اليقظان، الفيَّاض بأنوار الإيمان والقرآن، فخير القلوب قلبه الشريف -ﷺ-، فالله -تعالى- نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه -ﷺ-، يقاتلون عن دينه، فما رأه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأه المسلمون سيِّئًا فهو عند الله سيئ، وإن قلبًا نزل عليه القرآن بأسراره وأنواره وحروفه ومعانيه وروحه وحقائقه، لَهُوَ أوسعُ القلوبِ وأقواها، قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ۝ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾[الشُّعَرَاءِ: 192-195]، فأفاض من بحر أسرار قلبه الشريف على قلوب أتباعه، وشعَّ في مرايا قلوبهم من مشارق أنواره؛ ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾[الشُّورَى: 52-53].

وكان من يقظة قلبه -ﷺ- أن كان خُلُقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: «لَبَّيْكَ»، بعثه الله بشيرًا ونذيرًا، لا يقول الخنا، وفتح به أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا، وسدده بكل أمر جميل، ووهب له كل خلق جليل، وجعَل السَّكينة لباسَه، والبِرّ شِعاره، والتقوى ضميرَه، والحكمةَ منطقَه، والصدقَ سجيتَه، والوفاءَ طبيعتَه، والعفوَ طَبعَه، والمعروفَ خُلُقَه، والحقَّ شريعتَه، والعدلَ سيرتَه، والهُدى إمامَه والإسلامَ مِلَّتَه، وأحمد اسمه، فعرَّف الله به النَّكِرة، وكثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وجمع به بعد الفرقة، واستنقذ به فئامًا من الناس عظيمًا من الهلكة، وجعَل أُمَّتَه خيرَ أمة أُخرجت للناس، يأمرون بالمعروف ويَنهَون عن المنكر، موحِّدينَ مؤمنينَ مخلصينَ مُصدِّقينَ بما جاءت به الرسل، وكان -ﷺ- أشدَّ الناس لطفًا، وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه، فلا ينصرف حتى ينصرف السائل، ولا تناوَل أحدٌ قطُّ يدَه إلا ناوله إيَّاها، فلا ينزع حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها منه، وكان ينبسط مع الأهل وذوي القربى؛ كريم العشرة، حُسْن المُعامَلة مع أزواجه وسائر أهله، يلاطفهن ويمازحهن ويعاملهن بالود والإحسان، ويقول:«خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي»، ﷺ.

وكان إذا كان في بيته في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة، ورُبَّما استمع إلى حديث أزواجه بالملح، تأنيسا لهنَّ وملاطفة، وكان -ﷺ- أطلق الناس وجهًا، وأكثرهم تبسما، وأحسنهم بشرًا، يرد التحية بأحسن منها، ويرحب بالقادم عليه، ويسأل عن حال أصحابه، ويُكرِم كرام القوم، ويُباسِط جلساءه ويُوسِّع لهم، ويتبسَّم حين يَلقَى أصحابَه وحين يُحدِّثهم، وقد كان أكثرُ ضَحِكه التبسُّم، ويقول: «لا تُكثِروا من الضحك؛ فإن كثرة الضحك تُميت القلبَ»، وكان يُكافئ الكرامَ بأفضل إكرام، ويَقبَل الإحسانَ بأجمل إحسان، يتفقَّد أصحابه، ويحفظ الود، ويحتفظ بالعهد، ويَصدُق الوعدَ، ﷺ.

وكان عظيم التواضع، يَخدِم نفسه، ويُردف وراءه، ويمشي مع الأرملة والمسكين والأَمة، ويُكرم عبادَ الله المسلمين، ويقول: «إن الله -تعالى- أوحى إليَّ أن تواضَعُوا حتى لا يَفخَر أحدٌ على أحد، ولا يَبغي أحدٌ على أحد»، واختار-ﷺ- أن يكون نبيًّا عبدًا، لا نبيًّا مَلِكًا، وكان عظيمَ الحِلم، وما انتَقَم لنفسه من شيء قط إلا أن تُنتهك حرمة الله، فينتقم لله -تعالى-.

وكان أحسنَ الناس وأجودَهم وأشجَعَهم، ما سُئل شيئًا إلا أعطاه، وكان يُعطي عطاءَ مَنْ لا يخاف الفقرَ، فما رُئي أشجعَ ولا أنجدَ ولا أجودَ ولا أرضى من رسول الله -ﷺ-، فكان أصحابه إذا ألمَّت بهم الملماتُ، وأحاطت بهم المخاوفُ لاذوا بجنابه الرفيع، واحتَمَوْا بحماه المنيع -ﷺ-، وكان أعدل خلق الله في حقوق العباد قوامًا بالقسط، منتصرًا للحق، رحيمًا بالأهل والعيال والصبيان والأيتام، ورُبَّما بكى لمرض بعض أصحابه أو موتهم، يرحم الحيوان والطير -ﷺ-؛ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الْأَنْبِيَاءِ: 107].

وكان عليه الصلاة والسلام أعظمَ الناس حياءً؛ لأنه أعظمهم إيمانًا، وكان أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها، لا يواجه أحدًا بما يكرهه، فكان حياؤه حياء محبة وإجلال وعبودية وحشمة، عظيم المهابة، توجَّه اللهُ تاجَ العزة والكرامة، وكساه حُلَّةَ الفخامة، دائم الخشوع والانكسار، والتواضع للعزيز الغفار، في سائر مواقفه الكريمة، ومَشاهِده العظيمة، وصلواته وعبادته -ﷺ-، قال الله -عز وجل-: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۝ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۝ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ۝ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ۝ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ۝ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ۝ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ۝ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ۝ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ۝ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ۝ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ۝ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ۝ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ۝ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ۝ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ۝ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ۝ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾[النَّجْمِ: 1-18].

الحمد لله الذي ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾[الْفَتْحِ: 28]، إنَّ اللهَ قد بعَث محمدًا -ﷺ- من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا، مِنْ نكاح لا سفاح فيه، في نسَب قومه، فوُلِدَ -ﷺ- محفوفًا بالكرام الإلهية، ومعنيًّا بالعناية الربانية، إرهاصًا لنبوته وتمهيدًا لرسالته، وإعلانًا بعظيم مرتبته، وأن له -ﷺ- شأنًا كبيرًا؛ فهو دعوة أبيه إبراهيم، وبشارة أخيه عيسى، ورؤيا أمه، وكانت رأت حين وضعته نورًا أضاءت له قصور الشام، إشارة إلى ما يجيء به العالم، ويزيل به ظلمات الكفر؛ كما قال الله -عز وجل-: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ۝ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الْمَائِدَةِ: 15-16]، فنور الله بذلك النور البصائر، وأحيا به الضمائر، وفتح الأعين العمياء والآذان الصماء، فانصدع لنوره إيوان كسرى، وخمدت نار فارس، وغاضت بحيرة ساوة، وضلل الله في ذلك العام كيد أصحاب الفيل عن بيته المعظم، الذي سيكون مصلى رسوله -ﷺ-، ومَحجَّه ومُعتمَرَه، فيه نشأ في إيواء الله -تعالى- وكلاءته وحِفظه ورعايته، يُنبِته نباتًا حسنًا لِمَا يريد به من كرامته، ورفعة مكانته بالنبوة والرسالة، قال الله -عز وجل-:﴿وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ۝ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ۝ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾[الضُّحَى: 1-5].

وكان -ﷺ- كامل العقل ظاهر الفضل قبل بعثته -ﷺ-، ولما خطب أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- خطب فيهم أبو طالب عمه قائلًا: “الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضئ مَعَدّ، وجعَلَنا حضَنةَ بيتِه، وسُوَّاس حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا وحرمًا آمِنًا، وجعَلَنا الحكامَ على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يُوزَن برجل إلَّا رجَح به شرفًا ونبلًا، وفضلًا وعقلًا، فإن كان في المال قُلّ فإن المال ظل زائل، أو قال: حائل، وعارية مسترجَعة، ومحمد مَنْ عرفتُم قرابتَه.

ثم بعَثَه اللهُ على رأس الأربعين فدَعَا إلى الله وصبر، وهاجَر في الله وجاهَد وظَفِرَ، فدانَ بدين الله العباد، وخضعت له البلاد.

إنَّ أجلَى مظهر ظهرت فيه الحقيقةُ الأحبيةُ لرسول الله -ﷺ- هو أصحابه -رضي الله عنهم-، فقد كان -ﷺ- أحبَّ إليهم من أموالهم وأولادهم، وأنفسهم، ومِنَ الماء البارد على الظمأ، دلَّت على ذلك الوقائع وشهدت لهم الشواهدُ، فلما قال أبو سفيان بن حرب وهو يومئذ مشرك لزيد -رضي الله عنه- وقد أسَرَه المشركون وأرادوا قتله: “أتحب أن محمدًا عندنا الآن مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال له زيد -رضي الله عنه-: والله ما أُحِبّ أنَّ محمدًا في مكاني تُصيبه شوكةٌ وأنا جالسٌ في أهلي”، فقال أبو سفيان -رضي الله عنه-: “ما رأيتُ أحدًا من الناس يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا”.

وقُتل لامرأة من الأنصار أبوها وأخوها وزوجها شهداء يوم أُحُد مع رسول الله، فلما أُخبرت بذلك قالت: ما فعَل رسولُ الله؟ قالوا: خيرًا، هو -بحمد الله- كما تُحبِّينَ، فقالت: أَرُونِيهِ حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كلُّ مصيبة بعدك -أي: بعد سلامتك ورؤيتك- جَلَلٌ؛ -أي: هيِّنة حقيرة-، وأتى رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “لأنتَ أحب إلي من أهلي ومالي، وإني لأذكرك فما أصبر حتى أجيء إليك؛ أي: فيطمن قلبي وتقر عيني، وإني ذكرت موتي وموتك، فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتها لا أراك، وفي رواية أنَّه جاء ذات يوم وقد تغير لونه، فقال له رسول الله -ﷺ-:«ما غيَّر لَونَكَ؟»، فقال: ما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك استوحشتُ وحشةً شديدةً حتى أراكَ، ثم ذكرتُ الآخرةَ، فأخاف ألَّا أراكَ، فأنزَل اللهُ -عز وجل-: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ۝ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾[النِّسَاءِ: 69-70].

عبادَ اللهِ: ائتمروا بأمر الله -عز وجل- إذ قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الْأَحْزَابِ: 56].

اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ..


(*) تفريغ -بتصرف يسير- لخطبة لفضيلة الشيخ أحمد بن طالب حميد إمام وخطيب الحرم النبوي الشريف