ظهرت حركة جديدة تعد بإنقاذ فقراء وحل مشكلات العالم الاجتماعية، ترعاها مؤسسات رأسمالية، سواء على المستوى الدولي، من خلال إحداث ثورة في العمل الخيري، وجعل المنظمات غير الربحية تعمل مثل الشركات، وخلق أسواق جديدة للسلع والخدمات التي تعود بالنفع على المجتمع، ويطلق عليها اختصاراً “رأسمالية العمل الخيري، أو الرأسمالية الخيرية (Philanthrocapitalism) “، ويعتقد أنصار هذه الحركة أن مبادئ العمل التجاري الرأسمالي يمكن أن تتحد بنجاح مع البحث عن التحول الاجتماعي… وهناك فجوة هائلة بين الضجيج المحيط بهذه الحركة الخيرية الجديدة، وتأثيرها المحتمل؛ وقد أدرك بعض المحسنين الجدد حقيقة زحف هذا النموذج على العمل الخيري وتأثيراته، سواء من ناحية الفكر أو الممارسة… ولكن الكثيرين ما زالوا مفتونين بهذا الضجيج المزعج؛ فعلى الرغم من إمكاناتها الكبيرة، فإن هذه الحركة مبالغ في الترويج لها سواء من حيث الوسائل المقترحة أو الغايات الموعودة لأنها ترى أن أساليب العمل هي الحل للمشكلات الاجتماعية، ولكنها لا تقدم سوى القليل من الأدلة أو التحليلات الدقيقة لدعم هذا الادعاء، وتتجاهل الأدلة القوية التي تشير إلى عكس هذا الاتجاه.
مفهوم رأسمالية العمل الخيري
تعني تطبيق مبادئ عمل المؤسسات الرأسمالية وآليات السوق على مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والتطوعية بما يتضمن تسخير قوة آليات السوق والاستثمار وفق مبادئ الربح والخسارة لتحقيق أهداف الحراك الاجتماعي، على سبيل المثال الاستثمارات الضخمة التي وجهتها مؤسسات ربحية استثمارية نحو تقديم الدعم للفقراء وتوسيع فرص الحصول على قروض صغيرة كمؤسسة “جيتس” ومبادرة “بيل كلينتون العالمية” وغيرها، مما يؤكد مدى قدرة الرأسمالية الخيرية على توسيع فرص الحصول على السلع والخدمات المهمة لتعزيز قدرات وإمكانات المجتمع المدني.
وهو ما دفع “مايكل إدواردز” كتاب بعنوان “مجرد إمبراطور آخر: الحقائق والأساطير حول الرأسمالية الخيرية” لمناقشة التحديات التي تواجه تطبيق المبادئ الرأسمالية في العمل الخيري، وأنها وعد جديد بتحقيق التغيير الاجتماعي عن طريق حل مشكلات المجتمع المستعصية، ويتساءل عن مدى صحة هذا الاتجاه؛ أي هل تعد “الرأسمالية الخيرية” نعمة أم نقمة أم أنها في مكان ما بينهما؟
ويؤكد مايكل إدواردز أن مصطلح “رأسمالية العمل الخيرية” من المصطلحات الفضفاضة، حيث يتشابه مع مفاهيم أخرى مثل الشراكة الاجتماعية، أو العمل الخيري الاستثماري، أو المشروعات الاجتماعية، أو المسؤولية الاجتماعية المشتركة، إلا أنه يتمايز عن هذه المفاهيم جميعا في ثلاثة عناصر أساسية:
الأول، الموارد: حيث يجري توجيه مبالغ ضخمة جدا لأعمال الخير من الأرباح الهائلة التي جناها أفراد من قطاع تكنولوجيا المعلومات في العقد الأخير.
الثاني، الوسائل: حيث يبرز الادعاء أن الأساليب المستمدة من القطاع الرأسمالي لديها القدرة على حل المشكلات الاجتماعية، بل إنها تتفوق على الأساليب المستخدمة حاليا في مؤسسات المجتمع المدني.
الثالث، تحقيق الإنجازات: وهنا يأتي الادعاء أن هذه المبادئ الرأسمالية يمكنها أن تحقق الحراك الاجتماعي علاوة على زيادة فرص الحصول على السلع والخدمات.
ويفند هذه الادعاءات من خلال رؤية قدرة الاستثمارات الخيرية على توفير فرص متساوية للحصول على السلع والخدمات، إلا أنها في الوقت نفسه ضعيفة الأثر في تحقيق الحراك الاجتماعي المطلوب؛ لأن التغيير المنهجي يجب أن يشمل دور الدولة ومؤسستها وقطاعات العمل غير الربحي، وهي كلها أمور تتجاهلها هذه التجارب.
وإذا ضيقنا عدسة الرؤية نجد أن هناك مبادرات ناجحة عادت بالنفع على المجتمع مثل مبادرة “جوجل”؛ مشروع حاسوب محمول لكل طفل اعتماداً على تصنيع حواسيب رخيصة تستخدم البرمجيات مفتوحة المصدر، وهذه التجارب -على الرغم من أهميتها- لا تدلل على إمكان نجاحها، فعلى سبيل المثال أجري مسحاً لخمسة وعشرين مشروع مشترك في أمريكا، وأظهرت النتائج أن 22 منها انحرفت عن رسالتها الاجتماعية الخيرية مقابل توسيع أنشطتها الربحية الرأسمالية.
وفي المقابل، فهناك كثير من المؤسسات غير الربحية -لم تطبق آليات السوق الرأسمالي- نجحت في حفز الموظفين والمتطوعين للوصول إلى أعلى مستويات من الأداء، والتأثير في المجتمع المدني!
تآكل المجتمع المدني
يطرح “مايكل إدواردز” في كتابه تساءل؛ إن كان ثمة دليل على أن المجتمع المدني ككل قد تضرر بسبب هذه الاتجاهات الرأسمالية في العمل الخيري؟
ويجيب؛ بأن الواقع يؤكد أن ثمة مجموعة من الإشارات التي ربما تثير القلق حول من بينها:
- الدفع في اتجاه المنافسة والحوافز المادية كدوافع للعمل الخيري، مقابل الحد من الدوافع الاجتماعية التطوعية؛ فعلى سبيل المثال دفع أجور للمتطوعين في المؤسسات الخيرية حوّل العمل التطوعي إلى وظيفة تجارية.
- إهدار الطاقات والموارد بعيدا عن التغير الهيكلي، وبناء المؤسسات والإصلاح، لصالح التركيز على الخدمات الاجتماعية والبيئية.
- فقدان استقلال مؤسسات المجتمع المدني جراء اعتماده على الحكومة، أو على أصحاب رؤوس الأموال.
- تزايد الفجوة داخل المجتمع المدني ما بين مؤسسات ذات موارد مرتفعة، وأخرى ضعيفة الموارد.
- تغير العلاقة بين المواطنين والمؤسسات، حيث يحل تقديم المال عن بعد بدل من المشاركة النشطة من قبل المحسنين في هذه المؤسسات.
وكنتيجة لما سبق يزداد تآكل المجتمع المدني في عملية التحول الاجتماعي بعد تحوله إلى شيء أشبه بالخصخصة؛ وبذلك سيكون هناك تزايد في عدد وحجم مؤسسات المجتمع المدني غير الربحية، ولكن على حساب ضعف تأثيرها وفاعليتها في إحداث تغييرات حقيقية لحل مشكلات المجتمع.
لماذا يؤدي إدماج المبادئ الرأسمالية في العمل الخيري إلى نتائج عكسية؟
يقول “مايكل إدواردز” أن كلا من الأعمال التجارية، والعمل الخيري غير الربحي ليسا متباينين فقط، بل إنهما يسيران في مسارين عكسيين من حيث المبادئ، ففي العمل التجاري تأتي المنافسة مقابل التعاون في العمل الخيري، وكذلك الفردية مقابل العمل الجماعي، فضلا عن أن المستفيدين في المؤسسات الرأسمالية ينظر إليهم على أنهم زبائن أو مستهلكون، بينما المستفيدون من المؤسسات الخيرية هم مواطنون، وبالطبع هناك اختلافات شاسعة بين المستهلك والمواطن.
وهناك مؤسسات أصبحت تضطلع بمهمة تقييم الجمعيات الخيرية، وترشيحها للراغبين في الإحسان وعمل الخير، بحيث لا يتعين على هؤلاء أن يتصلوا اتصالا مباشرا بهذه الجمعيات أو أن يشغلوا أنفسهم بالمشاركة في أنشطتها، وكل ما عليهم أن يستثمروا أموالهم في المؤسسات التي تحقق أعلى ربح حسب توصيات مؤسسات التقييم؛ وبالطبع هذه الأموال الموجهة للاستثمار في المؤسسات الخيرية تخصم من الضرائب المستحقة.
ومع الأسف، تدفقت الكتب والدراسات والتقارير التي تدعم بقصص نجاح مضللة عن “رأسمالية العمل الخيري” لا نجد فيها سوى الاهتمام بالتمويل والأسواق والاستثمار والربح والخسارة، ونادرا ما تجد ذكرا العلاقات الاجتماعية والتنظيمية، وهي أشياء تدفع في اتجاه الحراك الاجتماعي الحقيقي.
هذا المشهد الدرامي، بدأ يتغير قليلا نتيجة الخبرة المتراكمة في مجال الرأسمالية الخيرية، لأن الغالبية العظمى من المشروعات الاجتماعية تدعم الحلول التقنية، وتدفع في اتجاه تحقيق معادلة النجاح التي تساوي في نظرهم (العلم + التقنية+ السوق).
وفي جميع الأحوال فإن قياس حجم الأعمال والأرباح أسهل بكثير من مسألة قياس الحراك الاجتماعي، ثم إنَّه مع الوقت من المعتاد أن يطغى أحد الأهداف على الآخر، فإذا كان هدف المؤسسة تحقيق الربح، وفي الوقت نفسه لديها رسالة اجتماعية، فإن الكثير من التجارب أثبتت أنه كلما رسخت قدم هذه المؤسسات في السوق أكثر كلما ابتعدت عن تحقيق رسالتها الاجتماعية، وحتى هذه المؤسسات التي انتشرت على “الإنترنت” لتقدم النصح للراغبين في التبرع، وتوفر قاعدة بيانات للجمعيات مصنفة حسب نوعيتها، ودرجة ربحيتها ومصداقيتها، إلا أنها نادرا ما تقيس التقدم المحرز تجاه تحقيق الاجتماعي.
ختاماً… لقد أوجز “مايكل إدواردز” حقائق مستخلصة حول أعراض “رأسمالية العمل الخيري” والعلاج في النقاط التالية:
- عدم تضخيم ما حققته الرأسمالية الخيرية من نجاح، فما زلنا لم نلمس نتائج حقيقية.
- الحقيقة تؤكد أن مجال التنافس لا يصلح في العمل الخيري الذي يفترض أن يقوم على التعاون.
- كلا من الأعمال التجارية، والعمل الخيري غير الربحي ليسا متباينين فقط، بل إنهما يسيران في مسارين عكسيين من حيث المبادئ، ففي العمل التجاري تأتي المنافسة مقابل التعاون في العمل الخيري، وكذلك الفردية مقابل العمل الجماعي، فضلا عن أن المستفيدين في المؤسسات الرأسمالية ينظر إليهم على أنهم زبائن أو مستهلكون، بينما المستفيدون من المؤسسات الخيرية هم مواطنون، وبالطبع هناك اختلافات شاسعة بين المستهلك والمواطن.
- تبني فكرة أن التعاون بين مؤسسات المجتمع المدني المستقلة أفضل من تحقيق المزج بينها أو جعلها تتنافس فيما بينها، وهذا التعاون من شأنه أن يحافظ على استقلالية هذه المؤسسات بما يمكنها من إحداث تغيير حقيقي في الأسواق، وليس فقط بتوسيع فرص الحصول على المعونات الخيرية.
- حان الوقت لمزيد من المحاسبة والمساءلة؛ لأن التركيز المتزايد للثروة والنفوذ بين الرأسماليين الخيريين لا يوفر مناخا صحيا للعدالة الاجتماعية.
- الفصل والتمييز بين الرأسمالية والعمل الخيري؛ لأن استخدام الفكر الرأسمالي يمكن أن يضر بالمجتمع المدني، الذي هو عماد التحول الاجتماعي.
- الرأسمالية الخيرية هي أحد أعراض عدم التكافؤ والمساواة في المجتمع، ولم تثبت حتى الآن قدرتها على تقديم علاج ناجع للمشكلات الاجتماعية.
- العالم يحتاج إلى مزيد من تأثير المؤسسات غير الربحية على قطاع الأعمال التجارية، وليس العكس؛ يحتاج مزيدا من التعاون لا المنافسة، مزيدا من العمل الجماعي لا الفردي، ورغبة متزايدة للعمل سوياً لتغيير البنى الأساسية التي تبقي معظم الناس فقراء محتاجين من أجل حياة أفضل للجميع.
ويطل سؤال (قاتم): هل نستخدم الموارد الهائلة لتحقيق التحول الاجتماعي الحقيقي، أم نبددها في الإنفاق على أعراض المشكلة ذات الأخطار المرتفعة؟!
لعل المهتمين بالشأن العام إجراء نقاش حول هذا الموضوع المهم.