غالبًا ما تُضخم التوقعات بشأن الذكاء الاصطناعي، بسبب الإفراط في التفاؤل والمشاهد (السيناريوهات) التي تشبه أفلام هوليوود، والفجوة بين الواقع والتوقعات والوعود الأحلام.
الذكاء الاصطناعي مجرد أداة متطورة، لكنه بعيد كل البعد عن كونه الذكاء الخارق الواعي القادر على حل المشكلات التي لم نكن نتمكن من حلها بمفردنا، فمثال بسيط، “الشات بوت” خدمة العملاء المدعمة بالذكاء الاصطناعي، أخفقت -إلى حد ما- حتى في فهم بعض الاستفسارات المركبة، مما أدى إلى إحباط العملاء ؟!!
دعونا نلقي نظرة فاحصة على المجالات التي يتألق فيها الذكاء الاصطناعي، والمجالات التي يكافح فيها للتفوق على البشر، وما يعنيه هذا لمستقبل الذكاء الاصطناعي بعيداً عن ضجيج الشركات والمروجين له.
الوعود والأحلام
منذ الخمسينيات، عندما وضع علماء الحاسوب مثل “آلان تورينج” الأساس للذكاء الاصطناعي، كان هناك اعتقاد بأن الآلات ستنافس الذكاء البشري يومًا ما، وغذى هذا الحلم عالم الخيال العلمي، حيث صورت الأفلام والكتب الذكاء الاصطناعي ككيان قوي للغاية من شأنه أن يساعد البشرية أو يهيمن عليها.
وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان من المتوقع أن يصبح الذكاء الاصطناعي في كل مكان، ويتخذ القرارات بشكل أفضل وأسرع من البشر في كل مجال -تقريبًا – من قيادة السيارات إلى تشخيص الأمراض إلى صعود الفضاء.
والواقع أن أنظمة الذكاء الاصطناعي قطعت شوطًا طويلاً، دفعت حدود ما يمكن للآلات تحقيقه، وأسرت الفنون التي يولدها الذكاء الاصطناعي الصناعة الإبداعية، وجرى الترحيب بأدواته مثل “ChatGPT” باعتبارها قفزة كبيرة نحو تفاعل أكثر بديهية بين الإنسان والحاسوب.
فلماذا إذن، على الرغم من هذه “الاختراقات”، يكشف الواقع حقيقة إمكانات الذكاء الاصطناعي المبالغ فيه؟
1. تحدي الفطرة السليمة
تتمثل إحدى القضايا الرئيسة التي يواجهها الذكاء الاصطناعي في الافتقار إلى الفطرة السليمة؛ في حين يفهم الإنسان أن كوب الشاي قد يكون ساخنًا وبالتالي يتطلب التعامل معه بعناية، فإن نظام الذكاء الاصطناعي لا يمتلك هذه المعرفة المدمجة ما لم يتم برمجته خصيصًا للنظر في هذا “السيناريو”، وحتى في هذه الحالة، لا “يفهمه” بالطريقة التي نفعلها.
الفطرة السليمة، وهي جزء بسيط وبديهي من الإدراك البشري، هي شيء يفتقر إليه الذكاء الاصطناعي بشكل أساسي؛ كان هذا العجز عن تطبيق المنطق الأساسي في المواقف اليومية حجر عثرة أمام مطوري الذكاء الاصطناعي، وبغض النظر عن عدد مجموعات البيانات التي تغذيها للذكاء الاصطناعي، فإنه لا يزال غير قادر على التنبؤ بكل “سيناريو” أو نتيجة ممكنة، ولا سيما في البيئات المعقدة في العالم الحقيقي (،وليس الافتراضي). وهذا تجده بشكل خاص في الصناعات الديناميكية مثل الرعاية الصحية والقيادة الذاتية، حيث يمكن أن تعني القرارات التي يتم اتخاذها في جزء من الثانية الحياة أو الموت.
2. التحيز والأخلاق: شوكة في خاصرة الذكاء الاصطناعي.
مع استمرار الذكاء الاصطناعي في التغلغل في مجالات مثل التوظيف والإقراض وإنفاذ القانون، أصبحت قضية التحيز واضحة بشكل صارخ؛ تُدرب أنظمة الذكاء الاصطناعي على بيانات تعكس التحيزات البشرية، سواء كانت واعية أو غير واعية؛ على سبيل المثال، وجد أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في التوظيف تفضل المرشحين الذكور لأن البيانات التي جرى تدريبهم عليها تعكس -تاريخيًا- قوة عاملة يهيمن عليها الذكور.
إن حقيقة أن أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكنها إدامة التحيزات المجتمعية، وتضخيمها أدت إلى زيادة المخاوف بشأن العدالة والأخلاق؛ على الرغم من الجهود المبذولة لجعل الذكاء الاصطناعي أكثر شفافية وشمولاً، لا تزال التقنية -إجمالاً- تكافح من أجل تحقيق التوازن بين الموضوعية والبيانات التي تغذيها، وهو ما يثير أسئلة مهمة حول من هو المسؤول عندما تتسبب أنظمة الذكاء الاصطناعي في ضرر أو تتخذ قرارات غير أخلاقية؟!
3. فشل الذكاء الاصطناعي مع الذكاء العاطفي.
هناك مجال آخر يفشل فيه الذكاء الاصطناعي، وهو فهم الأحاسيس البشرية والاستجابة لها؛ مع أن بعض نماذج الذكاء الاصطناعي مصممة لمحاكاة التعاطف، إلا أنها غالبًا ما تفتقر إلى الفروق الدقيقة التي تأتي مع التفاعل البشري الحقيقي؛ على سبيل المثال، قد تستجيب برامج المحادثة الآلية لاستفسارات المستخدم بكفاءة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع المحادثات العاطفية – مثل مواساة شخص يمر بوقت عصيب – فإنها تتعثر لأنها جامدة بلا شعور.
الأحاسيس البشرية معقدة وغالبًا ما تكون متعددة مع الإشارات الدقيقة ولغة الجسد والتاريخ الشخصي، وتكافح أنظمة الذكاء الاصطناعي من أجل استيعاب هذه التعقيدات، مما يجعلها غير مناسبة للمهام التي تتطلب التعاطف أو الاستشارة أو الذكاء العاطفي، وهذا القيد يؤكد أن الذكاء الاصطناعي، لا يزال بعيدًا عن اللمسة البشرية، على الرغم من كل قوته الحسابية.
4. حلم “الأتمتة” المبالغ فيه
كان أحد أهم وعود الذكاء الاصطناعي هو أتمتة المهام المتكررة، وتحرير البشر منها للتركيز على عمل أكثر إبداعًا أو الإستراتيجيات، وفي حين أحرز الذكاء الاصطناعي تقدماً في مجال الأتمتة ــ خاصة في التصنيع وتحليل البيانات ــ فإن كثيراً من هذه الأنظمة لا تزال تتطلب إشرافاً بشرياً كبيراً؛ خذ حالة المركبات ذاتية القيادة، فعلى الرغم من سنوات من البحث ومليارات الدولارات من الاستثمار، تظل سيارات ذاتية القيادة بالكامل حلماً بعيد المنال؛ على سبيل المثال، واجهت سيارة “تسلا” ذاتية القيادة كثير من النكسات ومخاوف السلامة، مما يسلط الضوء على حقيقة مفادها أن التنقل في بيئات العالم الحقيقي، أكثر تعقيداً مما كان متوقعاً، وروج له في البداية، وتكافح أنظمة الذكاء الاصطناعي مع عدم القدرة على التنبؤ، وهو أمر يتعامل معه البشر بسهولة نسبية.
5. الذكاء الاصطناعي باهظ التكلفة، وليس دائماً فعّالاً.
في حين أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تبسيط العمليات؛ فإنه غالباً ما يأتي بتكلفة باهظة؛ يتطلب تطوير وتدريب وصيانة نماذج الذكاء الاصطناعي موارد مكثفة، وغالباً ما تجد الشركات التي تتسرع في تنفيذ الذكاء الاصطناعي دون فهم كامل للتكاليف أنها ليست فعّالة من حيث التكلفة كما اعتقدت في البداية، وعلاوة على ذلك، تتطلب أنظمة الذكاء الاصطناعي مراقبة وتحديثاً مستمرين. وعلى عكس البشر، الذين يمكنهم التكيف مع المواقف الجديدة والتعلم من الخبرة، وتحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى إعادة تدريبها ببيانات جديدة لتظل ذات صلة بما يجري، وتصبح هذه الصيانة المستمرة مكلفة، وتتطلب عمالة مكثفة، ولا سيما الشركات والمؤسسات الصغيرة.
6. استهلاك الطاقة
أحد أهم الجوانب السلبية للذكاء الاصطناعي هو استهلاكه للطاقة؛ يتطلب تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة قوة حسابية هائلة، وهو ما يترجم إلى زيادة استخدام الطاقة، وفي عالم حيث أصبحت الاستدامة مهمة بشكل متزايد، فإن التأثير البيئي للذكاء الاصطناعي يشكل مصدر قلق متزايد؛ على سبيل المثال، يستخدم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي واسعة النطاق مثل GPT3، كمية من الطاقة يعادل ما تستهلكه عدة أسر في عام واحد.
لا يثير هذا الاستهلاك الضخم للطاقة أسئلة أخلاقية فحسب، بل يشكل أيضًا حاجزًا عمليًا أمام تبني الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، ولا سيما في الصناعات والمناطق حيث تكون موارد الطاقة محدودة أو مكلفة.
مستقبل الذكاء الاصطناعي: أين نتجه؟
على الرغم من التحديات التي يواجهها الذكاء الاصطناعي، فمن المهم عدم تجاهل إمكاناته. فقد أظهرت التكنولوجيا وعدًا ملحوظًا في كثير من المجالات، من تسريع البحث في العلوم الطبية إلى تعزيز أنظمة الأمن السيبراني. ومع ذلك، يعتمد مستقبل الذكاء الاصطناعي على إدارة التوقعات وفهم حدوده.
1. الأساليب التعاونية: البشر والآلة يعملون معًا.
يجب أن نركز على دور الذكاء الاصطناعي كأداة تعمل على تعزيز القدرات البشرية، وليس بديلاً لها، ولعل أحد الاتجاهات الواعدة للاستثمار في الذكاء الاصطناعي هو المفهوم التعاوني بين البشر والآلة؛ فبدلاً من القيام استبدال البشر بالكامل؛ فمثلاً في مجالات الرعاية الصحية، يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الأطباء على إجراء تشخيصات أسرع وأكثر دقة، ولكن يبقى القرارات النهائية تتخذ من قبل متخصصين مدربين؛ هذه العلاقة التكافلية تعمل على الاستفادة من نقاط القوة في كل من الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، مما يخلق نتيجة أكثر فعالية.
كذلك يمكن تطبيق هذا النهج عبر قطاعات مختلفة، كالتعليم والتمويل والتعليم وخدمة العملاء، حيث يقوم الذكاء الاصطناعي بالتعامل مع المهام الروتينية المتكررة، ولكن تحت إشراف بشري بحيث يضمن نتائج معقولة وأخلاقية.
2. الذكاء الاصطناعي المسؤول
إن معالجة قضية التحيز والأخلاق ستكون حاسمة لتطوير الذكاء الاصطناعي في المستقبل، ويعمل الباحثون على إنشاء نماذج ذكاء اصطناعي أكثر مصداقية وشفافية -ما تزال الحلول في المراحل المبكرة-، لضمان تنوع مجموعات البيانات وتمثيلها لمختلف شرائح المجتمعات (السكان)، وكذلك تطوير أطر الذكاء الاصطناعي الأخلاقية، مثل تلك التي اقترحتها بعض المنظمات الدولية، لتوجيه الشركات في نشر الذكاء الاصطناعي المسؤول، هناك حاجة إلى المزيد من العمل لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي وعادل.
3. الحد من استهلاك الطاقة
إن مشكلة الطاقة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي تشكل تحديًا حاسمًا، سيحتاج المطورون إلى معالجته؛ ويتلخص أحد الحلول في إنشاء خوارزميات أكثر كفاءة تتطلب قوة حسابية أقل، بالإضافة إلى إمكانية دمج مصادر الطاقة المتجددة في عمليات الذكاء الاصطناعي للتعويض عن التأثير البيئي السلبي. وتستكشف شركات الذكاء الاصطناعي والباحثون بالفعل هذه الخيارات، ولكن حتى يصبح الذكاء الاصطناعي الموفر للطاقة هو القاعدة، فإن قابلية التوسع في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ستظل محدودة، خاصة في عصر حيث المخاوف البيئية هي الأهم.
الخلاصة
الذكاء الاصطناعي مذهل لديه القدرة على إحداث ثورة في صناعات مختلفة وتحسين جودة الحياة، لكنه بعيد كل البعد عن الكمال؛ ليس الحل القوي كما يتم تصويره، فهو يفتقر إلى الحس السليم إلى القضايا المتعلقة بالتحيز والذكاء العاطفي واستهلاك الطاقة، ونحتاج إلى تعديل توقعاتنا، والاستثمار في الأساليب التعاونية، والاستمرار في العمل على حل التحديات التي تواجهها والاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي بالتعامل مع تعقيداته ونواقصه.
قد لا يكون الذكاء الاصطناعي القوة الفائقة الذكاء التي حلمنا بها ذات يوم، ولكن طالما أننا نواصل تحسينه وتطويره، فلا شك أنه سيظل جزءًا مهمًا من مستقبلنا.