جوهر الإحسان.. تعظيم الله وخشيته في السر والعلن

  • — الخميس نوفمبر 07, 2024

قال الله عزّ وجلّ: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران:163]

لو شبهنا مراتب الدين بالجبل الأشمّ لكانت مرتبة الإحسان هي قمته السامقة التي يسعى المؤمنون للوصول إليها وإدراكِها، وهم في سعيهم درجاتٌ بعضُها أعلى من بعض، وفي جواب النبي ﷺ عندما سأله جبريل -عليه السلام- عن الإحسان، قال مبيّنًا معنى الإحسان: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) [رواه مسلم].

والإحسان على درجتين:

الأولى: أن يَعبُدَ المُؤمِنُ ربَّه كأنَّه يَراه؛ فيَكونَ مُستحضِرًا بقلبه وبَصيرتِه وفِكرتِه لهذا المَقامِ، حتى يكون كالذي يشاهد ربه بعينه فيراعي حرمته في تصرفه، وفي عمله، وفي قيامه وقعوده وخروجه، وفي عبادته، وهذا المعنى أكثر الناس يغفلون عنه.

فإن عَجَزَ عنه وشقَّ عليه انتقَلَ إلى الدرجة الثانية: أن يَعبُدَ اللهَ مستحضرًا أنَّ اللهَ تَعالَى يَراه ويَطَّلِعُ على سِرِّه وعَلانيتِه، ولا يَخفى عليه شَيءٌ من أمرِه، فيحمله ذلك العلم على أن يحسّن العبادة، ويأتي بها على أكمل الوجوه من الإخلاص والمتابعة.

والمتأمل في معنى الإحسان بدرجتيه يعلم أن المؤمن لا يصل إليه حتى يمتلأ قلبه بتعظيم الله تعالى ومحبته، والحياء منه سبحانه أن يراه على حال لا يرضاه من المخالفة لأوامره أو ارتكاب ما نهى عنه.

فجوهر الإحسان هو خشية الله وتعظيمه ومهابته خاصةً في السرائر وعند الخلوات، وبهذه الصفة مدح الله تعالى عباده المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك:12] فهم يعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخفّوْا وتستروا، فيحجزهم ذلك العلم الملازم لقلوبهم عن معصيته، ويدفعهم إلى طاعته منيبين إليه، خاضعين لعظمته جلّ وعلا.

وقد كان النبي ﷺ يعلّم أصحابه كيف يدرّبون أنفسهم على تلك الحال الشريفة من المراقبة والاستحضار لعظمة الله تعالى في قلوبهم، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي. فَقَالَ: ((اعبدِ اللهَ كأنك تراهُ، واعدُد نفسَك في الموتَى، واذكرِ اللهَ عند كلِّ حَجرٍ، وعند كلِّ شجَرٍ، وإذا عمِلتَ سيئةً فاعمل بِجَنبِها حَسنةً، السِّرُّ بالسِّرِّ، والعَلانيةُ بالعَلانيةِ)) [صحيح الترغيب: 3342].

ونراه ﷺ يوصي أصحابه بتعظيم الله تعالى مقربًا لهم المعنى بهذا التشبيه، ولله المثل الأعلى، عن سعيد بن يزيد أبو سلمة رضي الله عنه أنه قال للنبي ﷺ: أوصني! قال: ((أوصيكَ أنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ كما تَسْتَحِي رجلًا من صالِحِي قَوْمِك)) [رواه البيهقي في شعب الإيمان: 6/145].

ويُعلِّم المؤمنين أن الدعاء من أهم أسباب تحصيل خشية الله وتعظيمه التي هي لُبّ الإحسان وجوهره، فقد كان من دعائه ﷺ: ((اللهمَّ إِنَّي أسألُكَ خشْيَتَكَ في الغيبِ والشهادَةِ)).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قلَّما كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ يقومُ من مَجلسٍ حتَّى يدعوَ بِهَؤلاءِ الكلِماتِ لأصحابِهِ: ((اللَّهمَّ اقسِم لَنا من خشيتِكَ ما يَحولُ بينَنا وبينَ معاصيكَ..)) الحديث [الترمذي: 3502]، أي: اللَّهمَّ ارزُقْنا نَصيبًا وحَظًّا من الخوف منك وتعظيمك وإجلالك يكونُ حائِلًا ومانِعًا مِن الوُقوعِ في المعصيةِ والذُّنوبِ؛ لأنَّ العَبدَ إذا امتَلَأ قلبُه إجلالًا وتَعظيمًا للهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ ذلك يَمنَعُه مِن أن يَرتَكِبَ المحظوراتِ تعظيمًا وهيبةً لله تعالى.

سُبُلِ الوصول إلى جوهر الإحسان

ومن سُبُلِ الوصول إلى جوهر الإحسان في تعظيم الله وخشيته؛ فهم أسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي وصف الله بها نفسه – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم وفي سنة نبيه ﷺ، واستحضار علمه سبحانه بكل ما يقوله العباد ويعملونه سرًّا وعلانيةً في ليلٍ أو نهار، وتعظيم الله تعالى عند كل همّ بعمل، وإصلاح النوايا والسرائر. فالسرائر أمرها عظيم وشأنها خطير، ولو خفيت على الناس، فإنها لا تخفى على الله عزّ وجلّ، فالسرّ عنده علانية، وخفايا القلوب له بادية، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)﴾ [طه].

عن حاتم الأصمّ -رحمه الله- قال: “تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عَمِلتَ فاذكر نظرَ الله إليك، وإذا تكلَّمتَ فاذكر سمعَ الله منك، وإذا سَكَتَّ فاذكر علمَ الله فيك”.


[ بتصرف من كتابات تعظيم الله]