من الناس من تَتُوق نفسه إلى أن يُشار إليه بالبنان، وأن يكون حديثَ المَجالس، ويُسمع لقولُه، ويُكتب عنه؛ تجده يَسعى بكلِّ سبيل خلف الشُّهرة وبريقها؛ فلا ريب أن طلب الشهرة وحب الظهور لذاتها مناف للإخلاص، وقد قيل: قاصم الظهور حب الظهور؛ إذْ مِن خصائص الشهرة وحب الظهور أنَّها تَؤُزُّ المرء إلى المغامرة أزًّا، ويُدَعَّى إلى تسويغ كلِّ وسيلةٍ موصِّلة إليها دعًّا، وهنا مَكْمَن الخطر، ومحمل الشَّوك الذي لا ينتقش.
لقد حذَّر الشَّارع الحكيم من حبِّ الشُّهرة والظُّهور الدَّاعي إلى تعلُّقِ القلب بتأسيس بنيان الرياء السُّمعة على شفا جُرفٍ هار؛ الإسلام بطبيعته المعتدلة يُريد لأفراده أن يكونوا مُتوازنين، ولا يغترُّون بالدُّنيا أو تتعلَّق بها قلوبهم، فما مدَّ أحدٌ عينَيْه إلى مَتاعها إلاَّ واشرأبَّت نفسُه، وقارب الفتنة، أو حام حول حِماها يوشك أن يقع فيه.
وقد بين النبي -ﷺ- أثر الشهرة وحب الظهور التي يكون عمَلُها وسعْيُها وقولُها لغير الله، فقال -ﷺ-: » إنَّ أوَّل النَّاس يُقضَى يوم القيامة عليه: رجلٌ استُشهِد، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمه فعرَفها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتَّى استُشهدت، قال: كذبتَ، ولكنَّك قاتلتَ لأنْ يُقال: جريءٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِر به فسُحِب على وجهه حتَّى أُلقِيَ في النَّار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنَّك تعلَّمت العلم؛ لِيُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثمَّ أمر به، فسُحِب على وجهه حتَّى ألقي في النَّار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتِي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن ينفق فيها إلاَّ أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنَّك فعلتَ لِيُقال: هو جوَادٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِر به، فسُحب على وجهه، ثمَّ ألقي في النَّار. «
فهؤلاء الثَّلاثة وعمَلُهم يُعدُّ من أعظم الأعمال في ميزان الإسلام، ولكنَّهم أحبَطوا ثوابَ عمَلِهم بسبب طلب الشُّهرة بين النَّاس، وحب الظُّهور الذي يَقْصِم الظُّهور، فكانوا -والعياذ بالله- أوَّل من تُسعَّرُ بهم جهنَّم، فهم حطَبُها الأوَّل؛ لأنَّهم أرادوا أن يَكونوا أوَّلَ الناس، وعلى رأسهم، فعاقبَهم الله بمِثْل قصدِهم، والجزاء من جنس العمل.
فالبحث عن الشُّهرة وحب الظهور خلَلٌ في العقيدة، وانقلابٌ في مفاهيم الغاية البشريَّة في الوجود، ونَكْسة في ترتيب الاهتمامات؛ فهو الصُّورة التطبيقيَّة للرِّياء (الشرك الأصغر) المُحْبِط للأعمال؛ قال النبِيِّ -ﷺ-: » مَن لَبِسَ ثوبَ شُهرةٍ في الدُّنيا، ألْبَسَهُ اللهُ ثوبَ مَذلَّةٍ يومَ القيامةِ «؛ لباس الشُّهرة الْمَادِّيّ كما هو اللباس المعنويَّ للشُّهرة ، ومن أيِّ نوع كان؛ سواء لباس العلم، أو لباس العمل، أو لباس الإنجاز، أو لباس الإنفاق، أو لباس الزُّهد، أو لباس الورَع، وأي لباس معنوي يتدثَّر به الإنسان بين الناس يسبِّب له الشهرة وهو يقصدها، ويتعمَّد أن يراه الناس بها، يمكن أن يشمله هذا الحديثُ؛ قالَ الإمام البَيْهَقِيُّ -رحمه الله-:”كلُّ شيء صيَّر صاحبه شهرة، فحقُّه أن يُجْتَنَب”.
أمَّا من اشتهر ونيَّتُه صالحة وعمَلُه خالصٌ لوجه الله، فإنه خارجٌ عن هذه الدائرة، ولكن الواجب عليه أن يتفقَّد حال قلبه بين الفينة والأخرى؛ قال الله تعالى معلِّمًا نبيَّه -ﷺ-: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾ [سورة الأنعام ]؛ “أي: إنَّ كل أعمالي ومَقاصدي محصورةٌ في طاعة الله ورِضْوانه، وعلى المسلم أن يكون قصدُه وعمله وكلُّما يقدِّمه من عملٍ هو وجه الله تعالى، سواءٌ في أثناء حياته، أو ما يعقبه من عملٍ صالح بعد مماته، هو للهِ، وإلى الله، وفي سبيل الله، ولطاعة الله تعالى، فإذا كان لله لم يَبقَ فيه نصيبٌ لغير الله”.
لقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – يفرُّون من الشُّهرة وحب الظهور وعدم الإخلاص لله في الأقوال والأفعال، كما تفرُّ الفرائس من مفترسها؛ فهذا بُريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- يقول: “شهدتُ خيبر، وكنت فيمن صعد الثُّلْمة، فقاتلتُ حتَّى رُئِي مكاني، وعليَّ ثوبٌ أحمر، فما أعلم أنِّي ركبتُ في الإسلام ذنبًا أعظم عليَّ منه”؛ أيِ: الشُّهرة [سِيَر الإمام الذَّهَبِيّ]
إن الشهرة وحب الظهور يشلُّ حركةَ المُجتمع الإيجابيَّة؛ ليحوِّلَها إلى شكليَّات ومظاهر، يُخادع بها بعضُهم بعضًا، فالشهرة حين تصير غايةً في ذاتها تكون سبباً لتفَشِّي الكذب والنِّفاق، والخديعة والتصنُّع، وغياب القِيَم الحقيقيَّة التي لا تنتج الإبهار، ومعرفة الناس الشُّهرة تَعني سقوط النَّماذج الحقيقة؛ ليبرز مكانَها الفقاعات الكاذبة والسَّراب المضلل، فليس كلُّ مشهور ناجحًا أو ناجيًا عند الله تعالى، وليس كلُّ مغمور خفي فاشلاً أو متأخِّرًا؛ ذكر ابنُ خلدون في مقدمته: “قلَّما صادفَت الشُّهرةُ والصِّيت موضِعَها في أحدٍ من طبقات النَّاس في أحد مَجالاتهم على وجه العموم، وكثيرٌ مِمَّن اشتُهر بِالشَّرّ، وهو بخلافه، وكثير مِمَّن تجاوزَتْ عنه الشُّهرة، وهو أحَقُّ بها، وقد تُصادِف موضعها، وتكون طبقًا على صاحبها، وإنَّ أثرَ الناس في إشهار شخصٍ ما يدخل الذُّهول والتعصُّب، والوهمَ والتشيُّع للمشهور، بل يدخله التصنُّع والتقرُّب لأصحاب الشهرة بالثَّناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذِّكْر بذلك، والنُّفوسُ مولَعةٌ بحبِّ الثَّناء، والناس مُتطاوِلون إلى الدُّنيا وأسبابِها، فتختل الشهرة عن أسبابها الحقيقة، فتكون غيرَ مطابقة للمشتهِر بها”.
والشهرة وحب الظهور يجب ألاَّ تكون هدفًا في ذاتِها، بل يمكن أن تكون نتيجةً للأعمال الصَّالحة أحيانًا، فعلى مَن ابتُلِي بها الصَّبرُ والمجاهدة، ومدافعَتُها قدر الإمكان دون الإخلال بوظيفته الصالحة في الحياة الدنيا، والسَّعيد من جعَلَها مطيَّةً للآخِرة، فصارت له دارُ مَمرٍّ لا دارَ مقرّ؛ فمن عمل صالحًا وعافاه الله، وكان مغمورًا؛ “تَقِيَّ غنيَّ خفيّ”، فلْيَعش في جنَّة الدُّنيا، ولْيَبق حُرًّا طليقًا، ولا يدخل إلى أقفاص المُراقَبة البشريَّة؛ ففي جنَّةِ الإحسان أن تَعْبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وإذا رأيتَ مشهورًا فقل: الحمد لله الذي عافاني مِمَّا ابتلاك، وفضَّلَنا على كثيرٍ من عباده تفضيلاً.
الشُّهرة قد تتَّفِق لإنسان فإذا صبَر على حقِّها، فإنَّه لا حرج عليه، والخفاءُ كذلك لا يُراد لذاته، إنَّما يُراد ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك؛ الذي يُراد أن تكون لك خبيئةُ سِرٍّ بينك وبين الله؛ تَلِجُ عليه من خلالِها، وتنفعك أحوجَ ما تكون إليها عند طلوع الرُّوح في لحظات الخواتيم، وتنفعك أحوجَ ما تكون إليها في ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ [سورة الشعراء].
أسأل الله العظيم أن يَحفظ علينا دينَنا، وأن يُنجِّينا من شرور أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا؛ إنَّه ولِيُّ ذلك والقادِرُ عليه.