〘الله هو الحَسِيبُ〙

  • — الأحد ديسمبر 15, 2024

يوصَفُ اللهُ عزَّ وجلَّ بأنَّه الحَسِيبُ والحاسِبُ، والحَسيبُ: اسمٌ له ثابتٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ.

الدليل من الكتاب:

ورد الاسم الكريم في القرآن الكريم في قول الله تعالى: { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً} [النساء: 6] و قوله تعالى في سورة الأحزاب: { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب: 39 ] وقول الله تعالى في سورة النساء: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }[النساء: 86] ، وقوله تعالى:{ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }[الأنعام: 62] وقوله تعالى:{ َنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }[الأنبياء: 47]

قال السمعاني -رحمه الله-: “قوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي: محاسبين، وقيل: حافظين عالمين. وقيل: محصين”.

وقال البغوي -رحمه الله-: “{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}. قال السدي: محصين، والحسب معناه: العد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: عالمين حافظين؛ لأن من حسب شيئا علمه وحفظه”.

وقال الشوكاني -رحمه الله-: “{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي: كفى بنا محصين، والحسب في الأصل معناه العد، وقيل: كفى بنا عالمين؛ لأن من حسب شيئا علمه وحفظه. وقيل: كفى بنا مجازين على ما قدموه من خير وشر”.

وقال السعدي -رحمه الله-: “{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} يعني بذلك نفسه الكريمة، فكفى به حاسبا، أي: عالما بأعمال العباد، حافظا لها، مثبتا لها في الكتاب، عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها، موصلا للعمال جزاءها”.

الدليل من السنة:

حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعا: <<… إن كان أحدكم مادحا لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا -إن كان يرى أنه كذلك- وحسيبه الله، ولا يزكى على الله أحد>>، وقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: <<… فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته…>>.

ومن معاني الاسم الشريف في حق الله تعالى: أنه يحاسب العبد على خفايا نواياه وعلى أعماله الظاهرة قال أبو عبيدة {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} [النساء: 86] أي كافيا مقتدرا. وقال ابن جرير: {وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً} أي كفى بالله كافيا من الشهود الذين يُشهدهم، وجاء أيضا بمعنى الكفاية، وقال في قوله تعالى {وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً}: أي وكفاك يا محمد بالله حافظا لأعمال خلقه ومحاسبا لهم عليها بحسب حكمته وعلمه جل شأنه وتقدست أسماءه.

فيتلخّص لنا من ذلك: أن اسم الله تعالى الحسيب يدور حول معنى: الحفيظ، والكافي، والشهيد، المحصي، والعالم، والمجازي الناس على أعمالهم، والحافظ لها.

وفي ضوء المعاني التي تقدمت لنتدبر حظ المسلم من اسم الله “الحسيب”:

أولاً: اليقين بأنه لا مفر من حساب الله: الله سبحانه وتعالى لا يشغله حساب أحد عن أحد ولن يكون هناك دور تنتظر فيه ولن يكون هناك مفر من هذا الحساب، الكل سيحاسب وبدقة شديدة عن كل صغيرة وكبيرة، قال جلّ في علاه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17] وهو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى.

ثانياً: استشعار العبد بأن الله الحسيب هو الذي يكفيه: كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: ” حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-حين ألقي في النار وقالها محمّد -صل الله عليه وسلم – حين قالوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}” (صحيح البخاري)

إذاً فمن حظ المسلم أن يستشعر أن الله الحسيب هو الذي يكفيه لا غنىً له عنه، بل لا يتصور العبد حياته دون ربه، فيديم اتصاله به ويديم افتقاره له ويتجسد ذلك في دوام الدعاء؛ فتجد دائما العبد المنيب إلى ربه دائم الاتصال بربه، وكلمة يارب هذه لا تخلو منها ساعة من وقته ” يارب ” دائماً يارب اغفر لي، يارب تب عليّ، يارب استرني، يارب يارب ليس لي سواك.. يارب يارب.. يتصل بالله سبحانه وتعالى.

ويشير العلماء هنا إلى معنى دقيق من معانى الكفاية: فيقولون هل احتياج الإنسان لملاذ الحياة يقدح في شعوره بكفاية الله له؟ فقالوا: الكفاية حصلت بهذه الأسباب لكن الله وحده المتفرد بخلقها للعبد فهذا لا يُسمى في الاعتبار انشغالاً عن الله إلا إذا كان هذا قاطعاً عن الله، يعنى العبد إذا خرج من بيته ليعمل متوكلا على الله سائلا منه الرزق والفتح، موقن بأن الله هو الفتاح الرزاق، يختلف عن عبد آخر خرج مشغولا بالأسباب، ناسيا للاستعانة، معتمدا على عقله وحوله وقوته ومهارته فيأبى الله عزّ وجل إلا أن ينقض عزيمته ولا يحصل مراده، بل وقد يُفتن. إذاً فمتى استعان فلا قدح في سعيه إلا أن يتعلّق بالأسباب دون مسببها.

وانظر إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]؛ فحين يقول الله عزوجل: ” يا أيها النبي حسبك الله ” أدركها صلى الله عليه وسلم ففرح واستبشر، فمن كان الله معه ماذا فقد، ومن كان الله عزّ وجلّ بعيداً عنه فماذا وجد؛ فحق هذه الآية العظيمة، وكذلك وقول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36] أن يكون رد العبد المؤمن: بلى يارب ومن يكفيني غيرك؟ يقولها قلبك فتشعر بلذة تودده إليك وقربه منك، فتزداد بدورك حبا وقربا له سبحانه جل جلاله.

ثالثاً: الله الحسيب هو المحاسب: ينبغي لكل مسلم أن يتوقف عند قضية المحاسبة ملياً؛ ولها شروط ينبغي أن نفقهها جيداً؛ أن يكون الإنسان دائماً أبداً محاسباً لنفسه ” حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ” فمن حاسب نفسه بدقه في حياته خُفّف عليه من الحساب يوم القيامة، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5، 6،7] فيكون حسابه يسيراً وهو مجرد العرض كما أخبر النبيّ صلّ الله عليه وسلم.

فلا يمر بالمسلم يوماً دون أن ينظر أين هو من الطريق المستقيم؟ هل تقدم أم تأخر؟، ويسأل نفسه ويحاسبها كما سيحاسبك ربك، وابدأ بالأمور العظيمة وانظر فيها فإن وجدتها خفيفة فاعلم أن هذا وزنك؛ ما شأن الصلاة عندك؟ وما وزنها؟ هل هي عظيمة في قلبك؟ هل تحافظ عليها وتقيمها بجميع أركانها وواجباتها؟ انظر في أخلاقك وسلوكياتك وتعاملاتك كمسلم؟

كذلك تحاسب نفسك على النواهي، فتعرف ما الكبائر التي تقع فيها فتسارع في التوبة والإقلاع عنها لعل الله يكفر عنك ما سواها، قال الله عزّ وجلّ: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}..

والحذر من الكبائر الأخرى؛ الغيبة والكبر والعجب ولباس الشهرة وآفات النفوس بشكل عام، وحاسب نفسك على كل كبيرة من هذه الكبائر وسعى للتنزه منها، حتى تصل إلى باقي الذنوب واللمم الأخرى إلى أن يصل بك الأمر إلى أن تحاسب نفسك على الكلمة، ” إن الرجل ليتفوه بالكلمة لا يعطي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا ” فتصبح الكلمة عندك بميزان، وهذه أحوال المحسنين، أحوال عباد الله تعالى المتقين.

وهكذا يسأل العبد نفسه كثيراً هذه الأسئلة، ويتدرج شيئا فشيئا إلى أن يصل بالمحاسبة إلى خطرات النفوس؛ يتدرج فيبحث عن الأعمال الخيرة التي لم تفعلها من قبل إذ يجب ان تضرب فيها بسهم، واعلم أنه من أدب المؤمن مع ربه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه غداً على الكبيرة والصغيرة، ويطالبه بالنقير والقطمير ومن وراء علم العبد بذلك عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره، فيطالب قلبه بالقيام بالحقوق قبل أن يطالبه سواه، ومتى راقب العبد معنى الحسيب تجلّى له نور الله القريب، فانبثق في قلبه نور فإذا نفسه تحاسبه على التقصير في الطاعة وتذكّره بحساب يوم القيامة.

وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأنّ النّبيّ صل الله عليه وسلم قال: “من حوسب عُذّب ” قالت عائشة: فقلت: أوليس يقول الله عزّوجلّ: {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} فقال: ” إنما ذلك العرض” – أي ذلك عرض الصحائف أي تُطوى من غير أن يُناقش في أي شيء لكن ” من نوقش الحساب يهلك ” (صحيح البخاري)

نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بمحاسبة دائمة لأنفسنا فلا يمر بنا يوم إلا وكنا مستشعرين لهذا لمعنى الحسيب، ونسأله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والقبول في الطاعات، والخشوع في الصلوات، والعفو عند العثرات، والشكر عند النِعم والصبر عند النِقم.