يخرج علينا بين فينة وأخرى – لاسيما في زمن تلاطمت فيه الفتن واستعرت – فنرى اختلالا في موازين “البعض” في تناولهم أحاديث الفتن وأشراط الساعة وتسرعًا وجزمًا -هداهم الله- في تنزيلها لحدث ما أو فتنة من الفتن، ومن تأمل بعض الكتب، وبعض مقالات الصحف في هذا الباب أدرك ذلك، فضلًا عما يوجد في الشبكة العنكبوتية من التساهل في طرح وتنزيل أحاديث الفتن على الواقع دونما علم، وتمحيص، وتدقيق وتؤدة.
ولتقرير هذه المسألة يمكن ضبط هذا الأمر بــ “أن الأصل في تنزيل أحاديث الفتن على الأزمان والأشخاص الردّ” [*]
وهذا الضابط سدَّاً لذريعة التقوُّل والتخرُّص على نصوص الشرع الحنيف بغير علم، وعدم التساهل في هذا الباب، فلا يجنى على النصوص الشرعية؛ والمقصود أن الأصل في تنزيل أحاديث الفتن على ما يقع في حياة الناس من فتنٍ حاضرة أو أشخاص بعينهم هو ردها، لاسيما مع كثرة الشائعات وتعلُّق كثير من النفوس بتتبع الغرائب، وكثرة الفتن الحاضرة، ومحبَّة البعض في وعظ الناس بربطهم بأحاديث الفتن، هذا وغيره يجعل البعض -وقد يكون عن غير قصد- ينزل نصوص الفتن على الأحداث أو الأشخاص في واقعه، وهناك العديد من المؤلفات في هذا الإنزال والمجازفة بزجِّ أحاديث الفتن على ما يقع من أحداث [* انظر الهامش].
تنزيل أحداث الفتن على الواقع يصحُّ بضوابطه
لا يعني القول بأن الأصل الردّ هو أنه لا يُشرع التنزيل، فليس هذا المراد، وإنما التنزيل جاء في كلام أهل العلم بضوابطه، والناس في هذا الباب طرفان ووسط، فمنهم من تساهل في إنزال أحاديث الفتن على الواقع الحالي، ومنهم من تشدّد ومنع هذا الباب جملة وتفصيلًا، فكان الأصل الردّ صيانة لأحاديث الشريعة، وحفظًا لمعانيها.
وتنزيل أحداث الفتن على الواقع يصحُّ بضوابطه -كما سيأتي- وموجود في كلام بعض أهل العلم السابقين والمعاصرين كما هو حاصل في أخبار السلف، ومما في تنزيل المعاصرين قول الشيخ ابن باز -رحمه الله-، عن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْكَذِبُ، وَتَتَقَارَبَ الأَسْوَاقُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْقَتْلُ»؛ قال ابن باز -رحمه الله-: “الأقرب تفسير التقارب المذكور في الحديث بما وقع في هذا العصر من تقارب ما بين المدن والأقاليم وقصر زمن المسافة بينهما بسبب اختراع الطائرات والسيارات والإذاعة وما إلى ذلك والله أعلم”.
وهذا مما يبيِّن أن التنزيل ليس ممنوعًا على إطلاقه، إلا أن الخلل والمجازفة في الإفراط بالتنزيل، لاسيما في واقعنا ومع توالي الأحداث فلا يكاد يمرُّ حدثٌ إلا ويتسامع الناس شيئًا من ذلك، وللتساهل بتنزيل أحاديث الفتن على الواقع خطورة عظيمة من عدة وجوه أبرزها: أنه قول على الله بغير علم، واستهانة بالنصوص، وفتح مجال لدعاة الضلالة أن يُلْبِسوا على الناس ويَدَّعوا ما لم يصح ثم يطعنوا بنصوص الشريعة، وما يترتب على تصديق الناس لهذه التنزيل الخاطئ من عمل شيء أو تركه لأجل الفتنة التي صدَّقوا تنزيلها إلى غير ذلك من المفاسد الواضحة عند التأمل.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: “وأحاديث الفتن مُتشابهة، فيجب التوقف فيها، وعدم التسرع في تطبيقها على الأشخاص والأحداث إلا بعد تحقق جميع أوصافها”.
فإذا تقرر ذلك فإن تنزيل أحاديث الفتن وكذلك أشراط الساعة على الواقع المعاش يخضع لعدة شروط كما يلي:
- الاقتصار في التنزيل على نصوص الوحيين، والتأكد من صحتها لفظًا ومعنى: خطاب النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه خطاب واضح يظهر للعالِم ويفهمه العامِّي، ولا يحتاج معه إلى تكلُّف في الفهم، أو إخضاع النصوص إلى معانٍ يراها العبد في واقعه فيحاول أن يلوي النصَّ ليوافق ما رآه أو ما ظنَّه عند التنزيل، وبيان النبي – صلى الله عليه وسلم – لفتنة الدجَّال مثلًا بيانًا شافيًا يشعرك بأن المراد هو أن تكون النصوص واضحة لا تحتاج إلى تكلُّف ليفهمها المسلم أو لينزِّلها على واقعه.
- أن يكون التنزيل بعيدًا عن التكلُّف: والمقصود أن نصوص الفتن التي تخضع للتنزيل هي نصوص الكتاب والسنة، فهما مصدرا التلقي في الشريعة، اللذان بهما الهداية والسداد، والإخبار بأحداث الفتن من الأمور الغيبيَّة التي لا يمكن ثبوتها إلا بوحي، وعليه فأي مصدر غيرهما لا يصح الاستناد إليه، ويلحق بالسنة النبوية آثار الصحابة في هذا الباب، فالصحابة على قدر عالٍ من العدالة، وباب الإخبار بالفتن مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد فحتمًا استقوه من مشكاة النبوة.
- التحقق من طبيعة الواقعة واستكمالها للأوصاف الواردة في النصّ: أركان التنزيل ثلاثة: (نص ينزل، وواقعة ينزَّل عليها، وعملية تنزيل)، ولا بد ليصحَّ التنزيل من التحقق من طبيعة الواقعة بأن يتعرف على الصورة الكاملة للواقع بكل جزيئياته، وانطباق جميع الأوصاف الواردة في النصِّ عليه، بحيث يتأمل مدى التطابق ومدى التخالف، فإذا لم يكن هناك تطابق بين الواقع الحاصل وبين جميع أوصاف النصّ لم يصح التنزيل حينئذٍ، فلا يصح جهل شيء من أجزاء الواقع فلربما اشتمل على شيء زائد عما ورد في النص، أو على ما يضادُّه، كما لا يصح إغفال وصفٍ من الأوصاف الواردة في النصّ لعدم وجودها في الواقعة، ففتنة الدجَّال مثلًا جاءت أوصافه مستفيضة في الدقَّة، فلا بد من انطباقها على الواقعة التي تُرى، أي لا بد من تحقق طبيعة الواقعة بوجودها بتفاصيلها، ولا بد من انطباق الأوصاف والجزيئيات الواردة في الدجَّال على الواقعة، وإلا لم يصح التنزيل.
- التأني في التنزيل ومراجعة أهل العلم من كبار العلماء: لأن غالب الاستعجال في مثل هذه المواطن يوقع في الندامة جرَّاء ما ظهر له من خلل بعد ذلك؛ قال أبو حاتم -رحمه الله-: “الرافق لا يكاد يُسْبَق، كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُم بعد ما يحمد، يعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعَجِل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلة أم الندامات”.
التمسك بالكتاب والسنة والفقه في الدين نجاة من الفتن
قال الإمام عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله-: “طريق النجاة من صنوف الفتن هو التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام… كل أنواع الفتن… لا سبيل إلى التخلص منها، والنجاة من شرها إلا بالتفقه في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى”.
اسأل الله تعالى أن يجعلنا من أتباع هدي النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم – قولا وعملا، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.
[*] المنهج الشرعي للداعية عند الفتن د. عبدالله بن حمود الفريح
أمثلة: تنزيلها على الأزمان:
كتاب (هرمجدون آخر البيان … يا أمة الإسلام!!!) عن الحديث الضعيف: «إذا اختلفت الرايات السود فيما بينهم أتاهم الرايات الصفر، فيجتمعون في قنطرة أهل مصر..»؛ نزَّل الرايات على هذا الزمان، بأن المراد أصحاب الرايات السود هم قوات طالبان وتحالف الشمال، وأما الرايات الصفر فالقوات الغربية الأجنبية، وقنطرة مصر هي قناة السويس.
ما تقوم به جماعات وأحزاب بتنظيم أفكارها وأعمالها بناء على فهمها للنصوص الواردة وتنزيلها على الواقع المعاصر، كما تفعل بعض الجماعات المسلحة في كل من العراق والشام؛ يبشرون بفتح “روما” من خلال كلماتهم المصورة ومنشوراتهم، وينذرون الأمم الأخرى بالسيطرة عليها بعد أن ينزل الروم في الأعماق ودابق، ويفسرون ما يجري في سوريا بأنها الأحداث المقصودة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وفتح بيت المقدس… وغيرها!!!
ومثال التنزيل على الأشخاص:
ما جاء في كتاب (المسيح الدجال: قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى) بأن المراد بالمهدي المنتظر هو صدام حسين؛ وهناك جملة من الأمثلة في التساهل في تنزيل النصوص، وقرابة العشرين كتابًا من الكتب المعاصرة وعشرات المقالات في ذات الموضوع حتى إن بعضهم وصف الرئيس الأمريكي بأنه “المسيح الدجال”.