إن أعظم مِنّة منّ الله بها على هذه الأمة هو أن بعث فيهم محمدا -ﷺ- هادياً ومبشرًا ومنذرًا ومرشداً ومعلماً؛ قال الله تعالى: {لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُوا عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُم الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وحين دعا نبينا إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – لذريته من بعده بكل خير، لم ينس أن يسأل الله -جل وعلا- لهم بالمعلّم الناصح والمرشد الموجه، قال الله تعالى :{ رَبَّنَا وَابعَث فِيهِم رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُم الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُزَكِّيهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة: 129]، فلما أوجد الله هذا الرسول الكريم -ﷺ-، جعل وجوده قاطعًا للعذر مقيمًا للحجة؛ فقال الله تعالى: {كَمَا أَرسَلنَا فِيكُم رَسُولاً مِنكُم يَتلُو عَلَيكُم آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُم وَيُعَلِّمُكُم الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَا لَم تَكُونُوا تَعلَمُونَ فَاذكُرُونِي أَذكُركُم وَاشكُرُوا لِي وَلا تَكفُرُونِ} [البقرة: 151، 152].
لقد أفنى رسول الله -ﷺ- عمره كله في سبيل تعليم أمته ونشر الدين؛ كان صلوات ربي وسلامه عليه يعلم الناس على جميع أحواله، في مسجده، في خطبة الجمعة، في مواعظه لأصحابه؛ يقول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: “إني لأتخوّلكم بالموعظة كما كان رسول الله يتخوّلنا بالموعظة مخافة السآمة علينا”.
كان بيته -ﷺ- مدرسة؛ ولهذا كان الصحابة إذا اختلفوا في أمر ذهبوا إلى بيوت النبي -ﷺ- يسألون زوجاته أمهات المؤمنين -عليهم صلوات الله وتسليمه- عن عمله في بيته.
كان -ﷺ- لا يدع فرصةً للتعليم إلا اغتنمها؛ يقول عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -: كنت يومًا خلف النبي -ﷺ- على الدابة، فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك.. » الحديث رواه الترمذي. ويقول أنس بن مالك – رضي الله عنه -: كان النبيّ على حمار، وكان معاذ رديفه، فقال: «يا معاذ بن جبل»، فقال معاذ: لبيك يا رسول الله وسعديك ـ ثلاثًا، ثم قال -ﷺ-: «ما من أحدٍ، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صِدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار» متفق عليه.
لقد كان -ﷺ- يعلم الناس وهو على ناقته؛ يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: لقد رأيت النبي -ﷺ- وهو واقف على ناقته في حجة الوداع للناس يسألونه، فما سئل عن شيء قدِّم ولا أخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج» رواه البخاري.
لقد سبق محمد -ﷺ- منظرو التعليم الذين يقولون “إن التعليم التطبيقي أرسخ من التعليم النظري”؛ يقول عمر بن أبي سلمة – رضي الله عنه – كنت غلامًا في حجر رسول الله -ﷺ-، وكانت يدي تطيش في الصحفة [الصحن]، فقال لي رسول الله -ﷺ-: «يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» متفق عليه.
كان -ﷺ- يمشي ومعه الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، فوجد تمرةً، فأخذها الحسن، فقال: «كخ كخ، أما علمت أنّا لا تحلّ لنا الصدقة؟» وأخرجها من فيه.
ولئن كان -ﷺ- يعلّم الناس بأقواله وأفعاله، فلقد كان -ﷺ- يعلمهم بأخلاقه؛ يقول معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه -: “بينما أنا أصلي مع رسول الله -ﷺ- إذ عطس رجل من القوم [اثناء الصلاة]، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكلَ أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكتّ، فلما صلى رسول الله -ﷺ- بأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال -ﷺ-: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»” رواه الإمام مسلم.
حتى إنه -ﷺ- ليوقف غيره من العبادات لأجل العلم لإن أمر تعليم الناس دينهم عظيم،؛ روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي رفاعة العدوي – رضي الله عنه – قال: انتهيت إلى النبي -ﷺ- وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله -ﷺ-، رجل غريب يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليّ رسول الله -ﷺ- وجعل يعلّمني مما علمه الله، ثم أتى -ﷺ- خطبته فأتم آخرها.
بمثل هذه الأساليب من النبي المصطفى -ﷺ- علّم أمته كلَّ شيء، حتى بلغ من ذلك أن بعض المشركين قال لسلمان الفارسي -رضي الله عنه-: إنا نرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة! قال سلمان: نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط، أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع دابةٍ، أو عظم.
وما مات -ﷺ- حتى علم الناس كل شيء؛ روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: لقد تركنا محمد وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا عنه علمًا.
ألا فاتقوا الله، وتفقهوا في دينكم، وليقِم كلّ واحدٍ منكم نفسه معلمًا لغيره؛ التفقه في الدينا ليس مقصورًا على مدرسة تفتح ثم تغلق ثم تفتح، إنّ الحياة كلها مجال للتعليم، البيت مدرسة، الأب مدرسة، الأم مدرسة، المسجد مدرسة، السوق مدرسة، كل واحدٍ، من الناس مدرسة في أخلاقه وتصرفاته.
إن أمةً رفع الله من شأنها ليس لها أن تنحدر إلى مستوى التقليد الأعمى والتبعية [في الدين] لغيرها، فقد وضح لها نبيها معالمها، لقد كان خطاب النبي -ﷺ- لأصحابه -رضوان الله عليهم- خطاب واضح يظهر للعالِم ويفهمه العامِّي، ولا يحتاج معه إلى تكلُّف في الفهم، أو إخضاع النصوص إلى معانٍ يراها العبد في واقعه فيحاول أن يلوي النصَّ ليوافق ما رآه، أو ما ظنَّه عند التنزيل، وبيانه -ﷺ- شافيًا يشعرك بأن المراد من النصوص أن تكون واضحة لا تحتاج إلى تكلُّف ليفهمها المسلم؛ إن أمةَ محمد -ﷺ- هي خير أمة أخرجت للناس، الصدارةُ منزلتها، والقيادة مرتبتها، {وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا} [البقرة: 143]؛ إن مصدر أصالة الأمة ومنبر توجيهها ومنار تأثيرها هو التمسك بتعاليم دينها، {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ، أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَن المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]؛ هكذا أراد الله لها إن هي استقامت على النهج وقامت بالحق، ومن السفاهة أن تطلب هذه الأمة الحقَّ في معالم غيرها من الأمم[!!!]
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وقلبًا خاشعًا ولسانًا ذاكرًا، ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.