<<مفتاح الشر كله: أن يزين الشيطان الباطل فيرى الإنسان سوء عمله حسنا!>>

  • — الأربعاء فبراير 19, 2025
لا شيء أكثر ضلالا، ولا أعظم خسرانا، ولا أشد ألمًا وعذابا، ولا أكبر مصيبة وغبنا، من ظن المبطل أنه محق، وظن أنه مصيب، وظن الضال أنه مهتد؛ يحفر في الماء وهو يظن أنه يحفر في التراب، وينقش على الرمل وهو يظن أنه ينقش على الصخر، فيتعب بلا فائدة، ويسعى بلا أجر، ويعمل بلا مقابل، بل ربما ارتد عليه باطله فأخذ به، وحوسب عليه، وعذب بسببه، وحينها لا ينفعه حسن القصد في الباطل؛ فإن الباطل لا يتحول بحسن القصد إلى حق وصواب.
قال الله -تعالى- فيمن حسن قصده وضل سعيه: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 104)؛ وبهذا ندرك أهمية الهداية، وخطر الغواية، ونعلم لِمَ نقرأ في كل ركعة نصليها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}.
إن أخطر شيء على العبد أن ينقلب قلبه، وينتكس فهمه فيرى سوء العمل حسنا، ويرى الباطل حقا، والضلال هدى، والخطأ صوابا. إن هذا هو أحط دركات الجهالة، وهو أشد أنواع الخذلان، وهو أفدح الخسران؛ والأفكار سواء ما كان منها حقا أم باطلا، فلكل دين حملته وعُبَّاده ودعاته، ولكل فكرة روادها ومروجوها، وفي هذا يقول الله جل جلاله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108].
وهذا يشمل الحق والباطل؛ فإنه مزين لصاحبه بأسباب أتاها، وأفعال فعلها. وهو تزيين من الله تعالى؛ فإن الصادق معه سبحانه، الباحث عن الحق، المتجرد من الهوى يوفقه الله تعالى للحق والصواب، ويحبب له الخير، ويُكَرِّه له الشر؛ فيتبع الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ويأخذ عن العلماء، ويقبل نصح المؤمنين، قال الله تعالى في هذا الصنف: {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]، فبين سبحانه أنه زين الإيمان في قلوب المؤمنين، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
وفي مقابل ذلك فإن العبد إذا كان ميّالا لهواه، ولم يصدق مع الله -تعالى-، ولم يقصد الحق والصواب؛ يخذله الله -تعالى-، فيزين له شيطانه ونفسه الخبيثة سوء عمله، فيظنه حسنا: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر: 8].
والكفر هو أسوأ السوء، وهو مع سوئه مزين لأصحابه، ما أعظمه من ضلال! وما أشده من خذلان! حين يكون أسوأ السوء، وأقبح القبح، وشر الشر، حسنا في نفس صاحبه، أي جهالة أحاطت بذلكم القلب؟! وأي ضلال كسي به؟! {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 122).
وقال تعالى في آية أخرى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33].
لقد أصيبوا بالعته والعمى والضلال، وحاق بهم الخذلان، وفارقتهم هداية الرحمن، فتسلطت عليهم الشياطين، فأرتهم السوء حسنا، والباطل حقا، والضلال هدى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4].
فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثار سيء العمل على حسنه؛ فإنه لا بد أن يُعَرِّفَه سبحانه السيئ من الحسن، فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه؛ زينه سبحانه له، وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا.
وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه، فرآه حسنا عقوبة له؛ ومن بلغ هذا الحال بلغ المنتهى في رؤية سوء العمل حسنا، فكان تابعا للشيطان: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 43)، {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48]، وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24].
وقد يتمادى بالعبد تزيين الشيطان له سوء عمله، حتى يكون وليا له بعد أن فقد ولاية الله تعالى: {تَالله لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:63].
ولا يستوي من حظي بولاية الله تعالى وهدايته، فكان على نور من ربه، وله بينة في دينه، ويرى الحق بقلبه، لا يستوي بمن يتخبط في الظلمات، ويركب الأهواء، ويتسلط عليه الشيطان: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
نعم، إن مفتاح الشر كله؛ أن يزين الشيطان الباطل للإنسان فيراه حسنا؛ أن يُعجب بنفسه، وبكل ما يصدر عنها، ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه؛ لأنه واثق من أنه لا يخطئ؟! متأكد أنه دائما على صواب؟! معجب بكل ما يصدر منه؟! مفتون بكل ما يتعلق بذاته، لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء، ولا أن يحاسبها على أمر، فلا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله، أو في رأي يراه!
هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على الإنسان، وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى #الضلال، فإلى البوار!
إن الذي يكتب الله له الهدى و #الخير يضع في قلبه الحساسية، والحذر والتلفت والحساب، فلا يأمن مكر الله -تعالى-، ولا يأمن تقلب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل، ولا يأمن النقص و العجز، فهو دائم التفتيش في عمله، دائم الحساب لنفسه، دائم الحذر من الشيطان، دائم التطلع لعون الله تعالى، وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال، وبين الفلاح والبوار.
نسأل الله السلامة والعافية، وأن يحفظنا من كل شياطين الجن والإنس، ويهدينا إلى صراطه المستقيم وسنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.