يشير مفهوم “القمامة العقلية” بأنه التفكير الزائد وغير المنظم الذي يتراكم في الدماغ نتيجة استقبال كميات كبيرة من الرسائل والمعلومات؛ ويحلل الدماغ هذه الرسائل بشكل مستمر، مما يؤدي إلى ظهور أفكار عشوائية وغير مفيدة تستهلك طاقة كبيرة.
ومصطلح “القمامة” هنا يصف الأفكار التي لا يرغب الشخص بوجودها ولا يستطيع السيطرة عليها، مما يسبب حالة من الإجهاد الذهني والبدني نتيجة الجهد المبذول في التعامل مع هذا الكم الهائل من الأفكار؛ وأن التفكير الزائد يشبه العبء الثقيل على الدماغ، حيث يؤدي إلى استنزاف الطاقة وزيادة التوتر والقلق. وأضاف أن الأفكار العشوائية غير المفيدة تساهم في تشويش التركيز وتقليل القدرة على اتخاذ قرارات صحيحة، مما يؤثر سلبًا على الأداء اليومي والجودة العامة للحياة.
يقول “ريتشارد سيتويك” أستاذ علم الأعصاب والنفس بجامعة “جورج واشنطن”، المتخصص في الإدراك فوق المعرفي، معلقاً على وضع العصر الحالي : “القمامة العقلية التي نتعامل معها أكثر ضرراً من تناول شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية”، كما جاء مجلة «فاست كومباني» : “إن أدمغة البشر هي نتاج العصر الحجري، ولهذا فإن الحمل الحسّي الزائد لحياة العصر الرقمي، يهدد الأداء الطبيعي الأمثل لهذه البيولوجيا الأساسية؛ ويشرح “سيتويك”، كيف ولماذا تكافح أدمغتنا لكي تزدهر وسط كتلة من التقنيات الجديدة المسببة للإدمان، وكيف أن عادات شاشاتنا الحديثة تضر بشكل لا يصدق بالراحة والأداء؛ لحسن الحظ، يمتلك العلم إمكانية كسر هذه “اللعنة” التي ألقتها الأجهزة الرقمية على حياتنا!!!”.
حدود طاقة الدماغ
يعمل الدماغ ضمن حدود طاقة ثابتة، ويستخدم “سيتويك” مصطلح «العصر الحجري»؛ لأن أدمغة العصر الحديث لا تختلف عن أدمغة أسلافنا البعيدين، فهي لم تتطور، في حين نمت “التكنولوجيا” بشكل كبير، فهو يركز على عوامل التشتيت الرقمية، والآثار الضارة للهواتف والشاشات على عقولنا… فقد «ذهبت فترات الانتباه والتركيز إلى الجحيم”.
يقول بعض الناس: “أنا مدمن على هاتفي”، ثم يقضي ساعات عبر الـ«تيك توك» و«إنستغرام» غير قادر عن التوقف؛ ينظر الناس بشكل خاطئ إلى القضية باعتبارها مسألة قوى تأثير خارجية وليس من منظور الدماغ، والتحمل الحسّي الزائد.
ويضيف سيتويك: “أنا أفكر أيضاً من منظور حسي: ما هي تكلفة الطاقة لأداء عمل معين أو التفكير في شيء معين؟
لا يمكن لأي قدر من النظام الغذائي أو التمرين أو ألغاز “السودوكو” أن تزيد من الطاقة المتاحة للدماغ؛ وبالمثل، فإن قوة الإرادة ووعاء من القهوة عديما الفائدة إذا لم نتمكن من التغلب على حدود الطاقة المتأصلة في الدماغ، فنحن بحاجة إلى العمل بما يتوفر لدينا”.
ويضيف أن الدماغ البيولوجي يستهلك قدراً هائلاً من الطاقة؛ فهو لا يشكل سوى 2 في المئة من وزن الجسم، ومع ذلك يستهلك 20 في المئة من السعرات الحرارية التي نحرقها يومياً؛ ويذهب معظمها إلى الحفاظ على الهياكل الجسدية من خلال ضخ أيونات الصوديوم والبوتاسيوم عبر الأغشية، ولا يتبقى سوى القليل جداً للعمل العقلي.
ولهذا السبب نحن سيئون للغاية في أداء المهام المتعددة والتعامل مع التحميل الحسّي الزائد… إذ لا يمكن لانتباهك أن يستوعب شيئين في وقت واحد.
شهية التعامل مع القمامة العقلية
الناس مهووسون بما يضعونه في أجسادهم: مادة عضوية، أو نباتية، أو خالية من الغلوتين، أو الدهون أو دون ألوان صناعية؛ إذن، لماذا لا يكونون انتقائيين بشأن ما يتناولونه من خلال الحواس؟
إن القمامة العقلية التي نتناولها أكثر ضرراً من الوجبات السريعة قليلة القيمة الغذائية؛ يصوم بعض الأفراد لأسباب صحية أو دينية أو حمية.
الصيام الحسّي صحي
ماذا لو كان من الممكن أن نستسلم للصيام الحسي ليوم واحد – أو حتى عدة ساعات – خالياً من الرسائل النصية والتغريدات ومقاطع الفيديو والرسائل الإلكترونية، وغير ذلك من الوجبات السريعة الرقمية؟
لم تتطور أدمغتنا لتتوق إلى التحفيز المستمر؛ بل تتوق إلى المشاركة الاجتماعية وجهاً لوجه، وبالنسبة للطفل، لا يوجد شيء أكثر جاذبية من وجه بشري ينظر إليه؛ فهو يركز عليه ويتبعه ويبتسم بينما تتسع حدقات عينيه، وكل والد وجدّ يعرف هذا؛ فلماذا إذن نحجب وجوهنا الحقيقية عن بعضنا البعض بصور وسيطة على الهواتف والأجهزة اللوحية؟
إن آلاف الاعجابات والمتابعات والمعارف عبر “الإنترنت” هي لا شيء مقارنة بالاتصال الحميمي بالشخص الجالس بجانبنا؛ رأينا جميعاً أشخاصاً يتجمعون حول بعضهم البعض، كل واحد منهم يحدق في هاتفه المحمول بمفرده، ويفشل في التفاعل مع الشخص الذي يبعد عنه قدماً واحدة؛ فهل من المستغرب أن يبرز وباء الوحدة في المكان الواحد “التوحد الافتراضي”؟
الشاشات المرئية تسبب التوحد الافتراضي
التوحد الافتراضي هو تطور سلوكيات تشبه التوحد لدى الأطفال العاديين الذين يتعرضون لكميات كبيرة من الوسائط التي تعرضها الشاشات، وخاصة الألعاب؛ مصطلح «التوحد الافتراضي» ظهر في عام (2018) من قبل الطبيب النفسي “ماريوس تيودور زامفير”، الذي درس الأطفال المعرضين لوقت طويل أمام الشاشات.
رغم أن السلوكيات تحاكي سلوكيات اضطراب طيف التوحد – أي تجنب الاتصال البصري، والانسحاب الاجتماعي، وتأخر اللغة، وقلة اللعب الخيالي – فإن هؤلاء الأطفال يتعافون عادة بمجرد تقليل وقت استخدام الشاشة بشكل كبير.
الإشباع الحسّي على حساب الذكاء الاجتماعي
إن أدمغة الشباب قابلة للتشكيل والتشكيل وفقاً لأي بيئة يتعرضون لها؛ وتعد «النوافذ الحرجة»، وخاصة خلال العامين الأولين من الحياة، ضرورية لتنمية الاتصالات في مناطق الدماغ المسؤولة عن الرؤية واللغة والإدراك الاجتماعي، وتتداخل الشاشات مع هذا التطور الطبيعي من خلال تعزيز المسارات التي تعطي الأولوية للإشباع الحسي – مثل التسلسلات السريعة من المشاهد والأصوات – على حساب تلك الخاصة بالذكاء الاجتماعي والعاطفي والتعاطف والخيال.
الشاشات تؤثر كالتدخين السلبي
الذي تعلم كيف يحمي نفسه من أبخرة السجائر، بنفس الطريقة يمكنه أن يحمي نفسه من التعرض للشاشات غير المرغوب فيه؛ تعرض الشاشات برامج الطبخ أثناء وجودك على جهاز المشي الكهربائي لممارسة الرياضة، وتدعوك الإعلانات في محطات المترو ومحطات الحافلات بنفس الطريقة؟!
عندما كانت تلك الأماكن هادئة حيث يمكنك أن تكون بمفردك مع أفكارك؛ قد تكون لديك ساعة لتمضيتها في المطار، لكن الشاشة في الصالة تبث أحدث الأخبار، وكأن التحديثات هي شيء لا يمكنك العيش دون معرفته الآن، إنها تستحوذ على انتباهك مثل الفراشة المتوجهة إلى اللهب وتحتفظ به، تطلب أن يتم النظر إليها!!
يمكننا استعادة انتباهنا، لكن الأمر يتطلب جهداً؛ ستستمر الشاشات في الانتشار، ولكن بوسعنا أن نتعلم كيف نتعايش مع هذه التحديات، من خلال الجلوس في مناطق خالية من الشاشات، والتواصل وجهاً لوجه مع الآخرين، وبوسعنا في الكثير من الأحيان أن نضع حدوداً لوقت ومكان استخدام أجهزتنا، ومن نسمح له بإرسال الرسائل النصية إلينا، والشركات التي نسمح لها بإرسال إشعارات فورية إلينا؛ من السهل أن نقول هذا من أن نفعله، ولكن لا بد أن نبدأ، وأقوى ما يمكنك فعله هو أن تبدأ بنفسك وتستمر في ذلك.
الأجهزة اللوحية “الآيباد وغيرها” هي أسوأ جليسة أطفال
إن هذه الأجهزة هي شكل من أشكال إساءة معاملة الأطفال وإهمالهم؛ لقد صُممت “تكنولوجيا” هذا العصر، التي وعدت بإثراء حياتنا، لجذب انتباه المستخدمين لأطول فترة ممكنة، لا يوجد سوى 1440 دقيقة في اليوم، وتقاتل شركات التكنولوجيا بلا رحمة من أجل جذب انتباهنا والإدمان، ما يجعل من الصعب الانفصال عنا؛ إذا علقت طفلاً بجهاز لوحي، فسيصبح زبوناً له مدى الحياة، وقد يقول الآباء الغاضبون إنه الشيء الوحيد الذي يبقي الأطفال هادئين، لكن الحقيقة أن هذه الأجهزة هي أسوأ جليسة أطفال على الإطلاق، إن وضعه أمام الطفل أو تعليقه فوق سرير الأطفال هو شكل من أشكال إساءة معاملة الأطفال، في رأيي، لأن القيام بذلك يعيق تطور رؤيتهم المركزية؛ الرؤية الطبيعية 20/20؛ وحدة البصر لدى المولود الجديد 20/400، وتصبح رؤية الألوان وظيفية في نحو أربعة إلى ستة أشهر، كما هو الحال مع الشبكات الأخرى لفك تشفير التعقيد الإدراكي للحركة، ونوافذ الذكاء العاطفي للطفل.
ورغم ضعف بصر الأطفال حديثي الولادة إلا أنها اجتماعية ذكية؛ حيث إن التركيز على حدقة العين المتسعة لدى شخص بالغ هو علامة شائعة على الاهتمام والمتعة التي تجعلهم يبتسمون، وبالتالي تتداخل الأجهزة اللوحية مع هذا التطور الطبيعي؛ فالشخصيات لا تتحدث على الشاشة مع الطفل بل تتحدث إليه، ولا توفر أياً من الإشارات العاطفية والاجتماعية واللغوية التي تتدفق عندما يتفاعل الطفل مع أحد الوالدين أو الأجداد الحقيقيين.
وتوجد «نوافذ حاسمة» خلال العامين الأولين لنمو مناطق الدماغ المسؤولة عن الرؤية واللغة والذكاء العاطفي، بما في ذلك نظرية العقل، التي تتضمن تعلم كيفية قراءة الآخرين، وهي مهارة تتطور قبل وقت طويل من تعلمنا التحدث. تتداخل الشاشات مع تسلسل النضج الطبيعي من خلال تعزيز المسارات التي تعطي الأولوية للإشباع الحسي الفوري على المسارات المخصصة لهذا النوع من الذكاء العاطفي.
الخلاصة .. القمامة العقلية هي نتيجة لعصر التدفق المعلوماتي المُفرط، والتغلب عليها يحتاج إلى تبني الوسائل الواعية التي تساعد على تقليل التعرض للمحفزات الخارجية من خلال تقليل مصادر التشتت والانشغال؛ وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة المحمولة والشاشات … وغيرها، وبالتالي التقليل من التفكير الزائد، وتهدئ الدماغ لاستعادة الهدوء النفسي والتوازن الذهني وتعزيز التواصل الحسي مع الذات ومع الآخرين.
عدة مصادر