«اللهم احشرني مع صاحب النقب»

  • — الخميس فبراير 20, 2025

التابعي الجليل والقائد العسكري البارز أبو سعيد مَسْلَمة بن عبد الملك بن مروان ما بين عام 86 هـ-705 م وعام 121 هـ-738 م، كان نبلًا وكرمًا وشجاعة وعلو نفس وأصالة رأي، توجه إلى المجد لا عن طريق الخلافة، ولكن برز اسمه بخوضه الكثير من المعارك والغزوات والحملات العسكرية على كُلٍّ مِن الإمبراطورية الروميَّة البيزنطيَّة وإمبراطورية الخزر، وكانت جلَّ حروبه وأغلبها على الدولة الرومية البيزنطية، وطالما اشتاق إلى فتح القسطنطينية، وقد تقدم في الفتوح إلى أن وصل إلى أسوارها.

•••

ولسنا هنا في فضائل القائد الفذ مسلمة، وإنما سقناه للحديث عن جندي مجهول تمنى مسلمة أن يكونه، لم يعرف له اسم، ولا حسب، ولا نسب، ولم يشأ هو أن يُعرف له شيء من ذلك.
فقد كان مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش للمسلمين يحاصرون قلعة عظيمة للروم ولكن القلعة استعصت على جيش المسلمين لارتفاع أسوارها ولإغلاق جميع المنافذ إليها ..وهو وضع صب في مصلحة جنود الروم فأخذوا يقذفون جيش المسلمين من أعلاها، فازداد تعب وانهاك جنود المسلمين.
وعندما استعصت القلعة علي الجيش الإسلامي قام أحد جنود المسلمين بفكرة عظيمة إذ أنه تخفى بمفرده إلى أن وصل باب القلعة وظل ينقب فيه وينقب حتى استطاع أن يُحدث به نقباً ثم رجع دون أن يُخبر أحداً.
وعندما أشرق النهار تأهب المسلمون للقتال كعادتهم دخل هذا البطل من النقب وقام بفتح الباب فتدافع المسلمون وتسلقوا أسوار القلعة ولم تمر سوي دقائق قليلة حتى سمع الروم أصوات تكبيرات المسلمين على أسوار قلعتهم وداخل ساحتها فتحقق لهم النصر ..
وبعد المعركة جمع القائد مسلمة بن عبد الملك الجيش ونادى بأعلى صوته : مَن أحدث النقب في باب القلعة فليخرج لنُكافئه فلم يخرج أحد فعاد وقالها مرة أخرى :من أحدث النقب فليخرج .. فلم يخرج أحد وهو الأمر الذي تكرر دون جديد.
اليأس لم يعرف طريقه نحو مسلمة حيث وقف من الغد وأعاد ما قاله بالأمس فلم يخرج أحد ..وفي اليوم الثالث وقف وقال : أقسمتُ على من أحدث النقب أن يأتيني أي وقت يشاء من ليل أو نهار ..
وعند حلول الليل والقائد يجلس في خيمته دخل عليه رجلٌ ملثم فقال مسلمة : هل أنت صاحب النقب ؟!
فقال الرجل : إنَّ «صاحب النقب» يريد أن يبر قسم أميره ولكن لديه ثلاثة شروط حتى يلبيَ الطلب ..
الجندي الشجاع حدد شروطا ثلاث ليخبر قائده بها قائلا : “الأول ألا تسأل عن اسمه والثاني ألا يكشف عن وجهه فيما أكمل عقد الشروط بألا يؤمر له بعطاء ..فقال مسلمة : لك ما طلبت ..عندها قال الرجل : أنا صاحب النقب .
الجندي وطبقا لما ورد في “عيون الأخبار لابن قتيبة ” ما لبث أن عاد أدراجه مسرعاً واختفى بين خيام الجيش فوقف مسلمة والدموع تملأ عينيه فقال : “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” ..الأحزاب أية 17
التابعي الجليل والقائد البارز مسلمة بن عبدالملك تعود بعد هذه الحادثة قال الراوي: فكان مسلمة يدعو: «اللهم احشرني مع صاحب النقب».
•••
مات صاحب النقب في أجله المكتوب، ولم يعرف بموته أحد، ولقد كان باعث سلوك هذا الرجل المجهول للناس أنه أراد -والله تعالى أعلم- أن يحتسب عمله لربه من غير أن يُضعِف قيمته بمكافأة أو شهرة أو جاه؛ قد سَمَتْ عنده فكرة الخير والتضحية من أجل دينه ودولته وقيادته نصرة للاسلام والمسلمين، وملكت عليه نفسه، فيعمل الواجب للواجب، فشعر أن باعثه النبيل أرقى من أن يناله التاريخ فيدونه، وأرفع من أن يقوّمه الإنسان فيجازي عليه.
وحتى باعث القائد مسلمة من مجد وحسن أحدوثة ونبل وكرم محبة المكافاة، باعث عظيم، ولكن قد يضعف احدى الباعثين الأخرى، لذلك أدرك «مسلمة» سمو عمل هذا الرجل عنه، فكان يدعو الله أن يجعله مع «صاحب النقب».
ليتنا نعي هذا الدرس جيداً!
فاجعلوا بينكم وبين الله خبيئة عملٍ صالح تنفعكم في يوم القيامة، يوم لا ينفع المال ولا البنون ولا الصيت ولا الهَيْلَمَانُ.
اللهم ارزقنا الاخلاص في القول والعمل وجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.
وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.