القرآن الكريم نزل على رسول الله ﷺ منجمًا على حسب الحاجة والأسباب، وقراءة القرآن الكريم تختلف عن قراءة أي شيء آخر؛ فلا بد أن تكون واضحة بيِّنة؛ لأنه كلام الله، ولا شكَّ أن أكمل الهَدْيِ هو هَدْيُ محمد ﷺ، وقد نقل لنا كيفية قراءته ﷺ للقرآن، وتلاوته؛ ترتيلًا، ومدًّا، ووقفًا، وإسرارًا، وإعلانًا، وتحسين الصوت، وغيرها من الأمور المتعلقة بصفة قراءة النبي ﷺ للقرآن الكريم:
قراءةً مفسَّرةً حرفًا حرفًا
عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك: “أنه سأل أم سلمة -رضي الله عنها- عن قراءة الرسول ﷺ، فإذا هي تَنْعَتُ قراءةً مفسَّرةً حرفًا حرفًا”؛ تنعت قراءةً مفسَّرةً: أي: مُبيَّنةً واضحةً مفصولة الحروف، السامع يستطيع أن يميِّز الحروف والكلمات. وحرفًا حرفًا: أي مرتلة ومجوَّدة؛ يُبيِّن كل حرف ويُعطيه حقَّه.
يقرأ مترسِّلًا
وفي حديث حذيفة: ((يقرأ مترسِّلًا، إذا مرَّ بآية فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ))؛ هذه القراءة هي التي تُعين على فَهم وتدبُّرِ القرآن الكريم، وهذا هو المقصِد الأعظم لنزول القرآن، وتلاوته، والقرآن إنما أُنزِل للتدبُّر والعمل بما فيه؛ كما قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، والتدبُّر لا يحصل بسرعة القراءة، بل بالتأنِّي وحُسنِ الترتيل.
وقد أمره الله تعالى بالترتيل؛ فقال: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]؛ قال العلماء: والترتيل هو إعطاء كلِّ حرفٍ حقَّه ومستحقه؛ قال ابن كثير رحمه الله: “أي: بتُؤَدَةٍ وتمهُّل، مُبيِّنًا الحروف والوقوف”، وقال السعدي رحمه الله: “فإن ترتيل القرآن به يحصُل التدبُّر والتفكُّر، وتحريك القلوب به، والتعبُّد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له”.
يَمُدُّ مدًّا
جاء في صحيح البخاري عن قتادة -رضي الله عنه- قال: “قلت لأنس بن مالك رضي الله عنه: كيف كانت قراءة الرسول ﷺ ؟ قال: مدًّا”، وفي رواية: “يَمُدُّ مدًّا”؛ أي ، يُعطي الحرف حقَّه، ويمُدُّ في مواضع المد، ونحو ذلك، فيمد ما يحتاج إلى مدٍّ؛ والمعنى: أنه كان يعطي الحروف حقَّها من الإشباع، وليس المقصود المبالغة في المدود بغير مُوجِب.
يُقطِّع قراءته آيةً آيةً
عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: “كان النبي ﷺ يُقطِّع قراءته، يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ثم يقف، ثم يقول: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ثم يقف، وكان يقرأ: ﴿مَلِك يوم الدين﴾”؛ بمعنى يقف على رؤوس الآيات، وفي رواية: “يقطِّعها آيةً آيةً”، حتى الآيات التي يتعلق معناها بما بعدها، ويتصل معناها كان يقف عندها.
يُسِرُّ بالقراءة ويجهَر
جاء في الصحيحين عن عبدالله بن أبي قيس -رضي الله عنه- قال: “سألت عائشة -رضي الله عنها- عن قراءة النبي ﷺ، أكان يُسِرُّ بالقراءة، أم يجهَر؟ قالت-رضي الله عنها-: كل ذلك قد كان يفعل، قد كان ربما أسرَّ، وربما جهر، فقلت: الحمد لله الذي جَعَل في الأمر سَعَةً”؛ [رواه الترمذي، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الألباني]؛ في صلاة النافلة، فكان هَدْيُه ﷺ التوسُّطَ بين الجهر والإسرار، بحسب ما يناسب المقام والحال؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “كانت قراءة النبي ﷺ ربما يسمعها مَن في الحُجرة وهو في البيت”؛ [رواه أبو داود، وغيره]؛ امتثالا لأمر الله تعالى له: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 110]؛ يعني: طريقًا وسطًا بين الجهر والمخافتة؛ لأن الاقتصاد مطلوب، وفي جميع الأمور محبوب.
يقرأ ويرجَّع
جاء في الصحيحين عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبدالله بن مُغَفَّل -رضي الله عنه- يقول: “رأيت النبي ﷺ على ناقته يومَ الفتح، وهو يقرأ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (*) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: 1، 2]، قال: فقرأ، ورجَّع.
فقرأ، ورجَّع: مدَّ مدًّا طويلًا حتى يسمع البعيد صوته، والترجيع: ترديد حرف المد في الحلق، ولكن المراد هنا هو تحسين الصوت.
ومن الأمور المتعلقة بتلاوة النبي ﷺ للقرآن الكريم:
كان –ﷺ– له حزبٌ من القرآن يقرؤه ويتعاهده، ولا يتركه أبدًا؛ والمقصود بالوِرْدِ: قدرٌ معيَّن كلَّ يوم يحافظ عليه ولا يتركه؛ ففي حديث أوس بن حذيفة الثقفي -رضي الله عنه-، في وفد ثقيف: “فكان -ﷺ- يأتينا كل ليلة بعد العشاء، فيُحدِّثنا قائمًا على رجليه حتى يراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدِّثنا ما لقِيَ من قومه من قريش، ويقول: ولا سَوَاءَ، كنا مُسْتَضْعَفِينَ مُستَذَلِّين، فلما خرجنا إلى المدينة، كانت سِجالُ الحرب بيننا وبينهم، نُدال عليهم ويُدالون علينا، فلما كان ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت: يا رسول الله، لقد أبطأتَ علينا الليلة؟ قال: إنه طرأ عليَّ حِزْبي من القرآن، فكرِهتُ أن أخرج حتى أُتِمَّه، قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله ﷺ: كيف تُحزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل”.
كان –ﷺ– يحسين الصوت والتغني بالقرآن؛ كما في صحيح البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-، “أنه سمع النبي -ﷺ- يقرأ في العشاء: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ [التين: 1]، فما سمِع أحدًا أحسنَ صوتًا منه”. وعن عبدالله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: “قرأ رسول الله يومَ فتح مكة بسورة الفتح، فما سمعت قراءة أحسنَ منها؛ يُرجِّع”، وقد ثبت عنه -ﷺ- أنه قال: «زيِّنُوا القرآن بأصواتكم»، وقال: «ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن»، وقال: «ما أذِن الله لشيء كما أذِن لنبيٍّ حَسَنِ الصوت يتغنَّى بالقرآن ويجهر به»؛ أي تحسين الصوت بقراءة القرآن الكريم قدر الوسع والطاقة؛ لأن تحسين الصوت بالقراءة مُعين على حضور القلب وخشوعه، وباعث على حسن الاستماع والإصغاء إلى القرآن؛ فإن الكلام الحسن يزيد حسنًا وزينة بالصوت الحسن.
كان –ﷺ– يحب أن يسمعه من غيره؛ ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي ﷺ: «اقرأ عليَّ القرآن، فقلت: يا رسول الله، أقرأُ عليك وعليك أُنزل؟ قال: «إني أُحِبُّ أن أسمعَه من غيري»، فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41] قال: «حسبُك الآن، فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرِفان»، واستمَعَ لقراءة أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- وقال له: «لو رأيتُني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؛ لقد أُوتيتَ مِزمارًا من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبَّرتُه لك تَحْبِيرًا»، وفيه استحباب الاستماع لقراءة قارئ حسن الصوت، وهذه من السنن المهجورة: أن تتقصَّد وتتحرَّى سماع القرآن من غيرك.
كان –ﷺ– يقرؤه على كل أحواله؛ قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، حتى وهو مُحْدِث حدثًا أصغرَ؛ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “لم يمنعه من القراءة إلا الجنابة”، فالجُنُب لا يجوز له قراءة القرآن، أما المحدث حدثًا أصغر، فيجوز له القراءة دون مسِّ المصحف.
سؤال: هل الأفضل الترتيل مع قلة القراءة، أو السرعة مع كثرتها؟
قال ابن القيم رحمه الله، بعد أن ذَكَرَ أقوال العلماء في هذه المسألة: “والصواب في المسألة أن يُقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبُّر أجَلُّ وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأول كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًّا، والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة”.
فينبغي أن يداوم المسلم والمسلمة على قراءته وحفظه وفهم معانيه، والعمل بمقتضاه ويجتهد في ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-: قالت ، قال رسول الله -ﷺ-: «مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ وهو يَتَعاهَدُهُ، وهو عليه شَدِيدٌ؛ فَلَهُ أجْرانِ»؛ الذي يقرأ القرآن، فيضبطه ويتفقده، ويكرر قراءته حتى لا ينساه، ويشتد عليه هذا الأمر ويشق عليه؛ لضعف حفظه وإتقانه؛ فإن له أجرين: أجرا لقراءته، وأجرا لعنائه وما يلاقيه من شدة في حفظه، وليس المراد أن أجره أكثر من أجر الماهر، بل الأول أكثر؛ ولذا كان مع السفرة؛ فالحافظ لا يصير كذلك إلا بعد عناء كثير ومشقة شديدة غالبا.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبة