«بركة العمر في عَرْض ما تقدم لحياتك الأُخْرويَّة»

  • — الثلاثاء يناير 28, 2025

وصف الله الجنة بالعرض دون الطول، وذلك بعدما قرر عز وجل طبيعة الحياة الدنيا، فقال ﷻ على سبيل الجزم والتحذير : {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد: 20-21].

إن الطول مفهوم معدود محدود، والجنة لا حد لها، ولا عد؛ إنها (الحيوان)، ولذلك وصفت بالعرض؛ إذ بالعرض تعيش اللحظة الواحدة أكثر من مرة، أما الطول فلا يتيح لك من اللحظة الواحدة إلا خطوة واحدة، تخطوها إلى أمام؛ لتصبح بعد ذلك من (الماضي)، وأما العرض فهو امتداد أفقي في الزمان الفسيح، إذ تتمتع بالمتعة الواحدة أبداً، وتعيش الشعور الواحد أبداً، وتغرف من اللحظة الواحدة معنى الخلود، وصورته في الدنيا هي (بركة العمر)، حيث يبارك الله في العمر القصير – ولا يكون العمر إلا قصيراً – ويزكيه؛ فينجز المؤمن فيه من الأعمال الصالحات؛ ما يمكنه -بإذن الكريم المنان- من دخول الجنة والخلود فيها في الحياة الآخرة؛ حياة سعيدة مطلقة في الزمان، سابحة في الجمال، تنعم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

إذن لا طول للحياة الدنيا فهي – بالنظر إلى هذا المعنى – ليست بحياة، إلا مجازاً، ولا بقاء لها مكاناً وزماناً، بل هي مجرد {مَتَاعُ الْغُرُورِ} للإنسان إن لم يستثمرها للحياة الآخرة، إنها – لو تدبرت – مجرد عمر في أيام لا طول فيه، وإنما الطول مفهوم يدل على الحصر؛ إذ ما سمي طولاً إلا لقابليته للعد والقياس، وكل معدود محدود؛ من هنا ابتدأ الله الآية بالأمر الجازم: {اعْلَمُوا…} والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع قطعاً ويقيناً، أي، بل تردد ولا شك، ولا ظن.

{اعْلَمُوا…} هكذا قطعاً، وجاء المثال القرآني العجيب مرة أخرى بصيغة أخرى: مثال الزرع إذ ينبهر الفلاح بخضرته وجماله وسنبله، فلا يلبث أن يصير حقله الجميل حطاماً، أو حصيداً كأن لم يغن بالأمس! فكذلك الدنيا كلها بزينتها وأموالها وأولادها، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}؛ وهنا جاء المقابل الأخروي هذه المرة في القرآن الكريم بصيغة فريدة.. لا مثيل لها، جاء طلب المسابقة إلى المغفرة والجنة، ووصف الجنة بما قال عز وجل: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، فوصفها بالعرض دون الطول، وإنما {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، وذلك هو الزمان الأخروي السعيد، والعمر الجميل المديد، وتلك هي الحياة الدائمة.. {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}.

ما أعظم التعبير القرآني في هذا الأمر، إذ يقول الله تبارك وتعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23 – 24]، ولذلك فهي بالنسبة للإنسان الكافر والعاصي لا يرى ذلك إلا بعد موته، وتكون الحسرة والندامة لكونه لم يقدم لحياته، ولم يصفها الله تعالى بــ (الآخرة)؛ للدلالة على أنها هي وحدها حياته؛ إذ أدرك عياناً أن ما سبق من حياته الدنيا ليس بحياة، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ … }، وهم الذين كانوا في الدنيا يكفرون بالله وآياته، ويكتسبون فيها المعاصي والآثام {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}؛ فيندمون على التفريط في الحياة الدنيا على حساب الحياة الآخرة، ونتيجة الأمر أنه ما حيي إلا من حيي في الدنيا وزرع للآخرة.

فما أخسر ممن يستنزف العمر على حساب بركة ما يقدمه لحياته الدائمة، ولا يسابق إلى معرفة الله ومرضاته، فيكتشف المعنى الحقيقي للحياة، ويذوق جمالها قبل مماته المحتوم، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]؛ وقال ﷲ ﷻ: {كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينا تُرجَعونَ} [الأنبياء: ٣٥].

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة وما قرَّب لها من قولٍ وعملٍ، ونعوذ بك من سخطك والنار، وما قرَّب لها من قولٍ وعملٍ، اللهم بارك لنا في أعمارنا واجعلها شاهدةً لنا لا علينا، اللهمِ متعنا براحة البال، وصلاح الحال، وصحة الأبدان وقبول الأعمال. آمين