«مراتب الإحسان إلى الناس»

  • — الجمعة مارس 14, 2025

قال ﷲ ﷻ: ﴿قَولٌ مَعروفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُها أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَليمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٣]

ذكر العلامة ابن سعدي (رحمه الله) في تفسيره ، أن الله -عز وجل- ذكر أربع مراتب للإحسان:
المرتبة العليا: النفقة الصادرة عن نية صالحة ولم يتبعها المنفق منًّا ولا أذى.
ثم يليها قول المعروف وهو الإحسان القولي بجميع وجوهه الذي فيه سرور المسلم، والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئًا، وغير ذلك من أقوال المعروف.
والثالثة الإحسان بالعفو والمغفرة عمن أساء إليك بقول أو فعل.
وهذان أفضل من الرابعة وخير منها وهي: التي يتبعها المتصدق الأذى للمعطي لأنه كدر إحسانه وفعل خيرًا وشرًّا.

فالخير المحض وإن كان مفضولًا خير من الخير الذي يخالطه شرٌّ وإن كان فاضلًا، وفي هذا التحذير العظيم لمن يؤذي من تصدق عليه كما يفعله أهل اللؤم والحمق والجهل، ﴿والله﴾؛ تعالى ﴿غني﴾؛ عن صدقاتهم وعن جميع عباده ﴿حليم﴾؛ مع كمال غناه وسعة عطاياه يحلم عن العاصين، ولا يعاجلهم بالعقوبة بل يعافيهم، ويرزقهم، ويدر عليهم خيره، وهم مبارزون له بالمعاصي.
ثم نهى أشد النهي عن المنِّ والأذى وضرب لذلك مثلًا:

﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُم أَن تَكونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخيلٍ وَأَعنابٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ لَهُ فيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعصارٌ فيهِ نارٌ فَاحتَرَقَت كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرونَ﴾ [البقرة: ٢٦٦]

ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثلة: للمنفق ابتغاء وجهه ولم يتبع نفقته منًّا ولا أذى، ولمن أتبعها منًّا وأذى، وللمرائي.

فأما الأول فإنه لما كانت نفقته مقبولة مضاعفة لصدورها عن الإيمان والإخلاص التام ﴿ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم﴾؛ أي: ينفقون وهم ثابتون على وجه السماحة والصدق فمثل هذا العمل، ﴿كمثل جنة بربوة﴾؛ وهو المكان المرتفع لأنه يتبين للرياح والشمس، والماء فيها غزير، فإن لم يصبها ذلك الوابل الغزير، حصل لها طلٌّ كافٍ لطيب منبتها وحسن أرضها وحصول جميع الأسباب الموفرة لنموها وازدهارها وإثمارها، ولهذا ﴿آتت أكلها ضعفين﴾؛ أي: متضاعفًا، وهذه الجنة التي على هذا الوصف هي أعلى ما يطلبه الناس، فهذا العمل الفاضل بأعلى المنازل.

وأما من أنفق لله ثم أتبع نفقته منًّا وأذى، أو عمل عملًا فأتى بمبطل لذلك العمل فهذا مثله مثال صاحب هذه الجنة، لكن سلط عليها ﴿إعصار﴾؛ وهو الريح الشديدة ﴿فيه نار فاحترقت﴾؛ وله ذرية ضعفاء وهو ضعيف قد أصابه الكبر، فهذه الحال من أفظع الأحوال، ولهذا صدَّر هذا المثل بقوله: ﴿أيود أحدكم﴾؛ إلى آخرها بالاستفهام المتقرر عند المخاطبين فظاعته، فإن تَلَفَها دفعة واحدة بعد زهاء أشجارها وإيناع ثمارها مصيبة كبرى، ثم حصول هذه الفاجعة وصاحبها كبير قد ضعف عن العمل وله ذرية ضعفاء لا مساعدة منهم له ومؤنتهم عليه فاجعة أخرى، فصار صاحب هذا المثل الذي عمل لله ثم أبطل عمله بمنافٍ له يشبه حال صاحب الجنة التي جرى عليها ما جرى حين اشتدت ضرورته إليها.

المثل الثالث الذي يرائي الناس وليس معه إيمان بالله ولا احتساب لثوابه حيث شبه قلبه بالصفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب يظن الرائي أنه إذا أصابه المطر أنبت كما تنبت الأراضي الطيبة، ولكنه كالحجر الذي أصابه الوابل الشديد فأذهب ما عليه من التراب وتركه صلدًا، وهذا مثل مطابق لقلب المرائي الذي ليس فيه إيمان بل هو قاسٍ لا يلين ولا يخشع، فهذا أعماله ونفقاته لا أصل لها تؤسس عليه ولا غاية لها تنتهي إليه، بل ما عمله فهو باطل لعدم شرطه.
والذي قبله بطل بعد وجود الشرط لوجود المانع، والأول مقبول مضاعف لوجود شرطه الذي هو الإيمان والإخلاص والثبات وانتفاء الموانع المفسدة. وهذه الأمثال الثلاثة تنطبق على جميع العاملين، فليزن العبد نفسه وغيره بهذه الموازين العادلة والأمثال المطابقة ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾. ا.هـ.

جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، المحسنين لخلقه، المتعاونين على البر والتقوى.