تأسَّسَ في الأوساطِ الأكاديميةِ والسياسية الغربية مجال ما يسمى “إدارة الفهم” أو “إدارة التصور” بالإنجليزية ” Perception Management” .
ويتلخص المفهوم بأنه : “ نَشْرُ معلومات (أو حذف) بهدف التأثير على تفكير الجمهور المستهدف، من أجل الحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح”.
“ولأنَّ عملية النشر والحذف يتطلبان أساليب دقيقة ومعرفة تامة بعلْم النفس والسلوك والإدراك، قام الباحث المُختَص بتاريخ العلوم من ستانفورد “روبرت بروكتر” بصياغة ما يُعرف باسم “أغنوتولوجي Agnotolgy”؛ ضمن علم اجتماع المعرفة، ويعني علم “التجهيل” وهو عبارة عن دراسة الجهل أو الشك المتعمد الناجم عن الثقافة، ويستخدم عادة لبيع منتج ، أو التأثير على الرأي ، أو كسب شيء مفضل من خلال نشر بيانات علمية غير دقيقة أو مضللة.
وبدأَ هذا العلم في التسعينات من القرن العشرين الميلادي، بعدما لاحظ الباحث دعايات شركات التبْغ التي تهدف إلى تجهيل الناس حول مخاطر التدخين؛ ففي وثيقة داخلية نُشرت من أرشيف إحدى شركات التبغ الشهيرة، تَبَيَّنَ أنَّ أبرز مُخَطَّط لإدارة الفهم ونشر الجهل كان عن طريق “إثارة الشكوك في البحوث العلمية التي تربط التدخين بالسرطان“.
ومن حينِها انطلق “لوبي التبغ” لرعاية أبحاث علمية مزيفة هَدَفُها تحسين صورة التبغ اجتماعيًّا ونشرِ التضليل حول مخاطرِه بهدف التأثير على صُنّاع القرار وعلى الرأي العام.
وكما هو مُلاحظ، فإن الأمر لا يتعلق بانعدام المعرفة فقط، بل هو “مُنتج” يتم صنعه ونشره لأهداف معينة، وهذا التضليل -المُخطط له والمُمنهج- حسب أساسيات علم إدارة الفهم يستند إلى ثلاث عناصر:
- إثارة الشكوك.
- صناعة الحيرة.
- بث الخوف لدى شريحة المستهدفين.
ومن الامثلة على ذلك ما قامت به شركة “كوكاكولا” العالمية بعد هبوط مبيعاتها بنسبة 25%، بدفع ما يقارب خمسة ملايين دولار لباحثين أكاديميين، لتنفيذ مُهِمَّة تغيير فهم المجتمع حول أسباب السمنة، وذلك بتقليل دور المشروبات الغازية في انتشار السمنة وتَوْجيه اللَّوم إلى عدم مُمارسة التمارين الرياضية! هذه “الأبحاث مدفوعة الأجر” تنشر على نطاق واسع لإثارة الشكوك في ذهن الفرد حتى يعيد تشكيل مَوْقِفِهِ بما يتناسب مع “أَجِنْدَةِ” هذه الشركات.
كثرة المعلومات المتضاربة تَجعل اتخاذ القرار المناسب صعبا، فيدخل الفرد في دوامة من الحيرة، حتى يبدو تائها، وجاهلاً بما يجري في الحقيقة، وهذا الوضع يزيد من العبء النفسي والذهني .. فيَقْبَل ما لا ينبغي القبول به، للنجاة من هذه الدوامة… وهذه -تحديدًا- هي الغاية من التجهيل!!
ففي هذا العصرِ الرقَمِيِّ، باتَ الجهل والتضليل سلعة يومية تنشر وتُسَوَّق على الجمهور، والصمودُ أمامها يتطلب جهداً ذاتيةً ووَعْيًا مُستقلاً يبحث عن الحقيقة بعيداً عن العاطفة والأُمنيات.
ومِن قِصَرِ النَّظَرِ وفَرْطِ السذاجَةِ أنْ نَعْتَقِدَ أنَّ ”إدارة الفهم” محصورةً في ترويج سلعة أو تفضيل منتج، بل هي أشمل ممّا قد يخطر على البال، وتحتاج مراجعة لِنَكْتَشِفَ ما يجري حولنا من “تضليل” و “تجهيل”؟!
[دارة المعرفة]