آية كريمة في مطلع سورة الرعد تدعو إلى التأمل في بديع صنع الله في الأرض التي نعيش عليها، والعلاقة الوطيدة بين الماء و التربة و النبات وما فيها من إعجاز -والقرآن كله معجز- وهو أيضا مثل لاختلاف بني آدم وألوانهم وتأثر قلوبهم بما ينزل من الحق من السماء.
قال الله تعالى في محكم التنزيل : { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض ٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية :
[ قوله سبحانه وتعالى : {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} أي : أراض تجاور بعضها بعضا ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس ، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا . وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض ، فهذه تربة حمراء ، وهذه بيضاء ، وهذه صفراء ، وهذه سوداء ، وهذه محجرة وهذه سهلة ، وهذه مرملة ، وهذه سميكة ، وهذه رقيقة ، والكل متجاورات. فهذه بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.
وقوله سبحانه : { وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } يحتمل أن تكون عاطفة على { وَجَنَّاتٌ } فيكون { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} مرفوعين . ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب ، فيكون مجرورا؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.
وقوله : { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } الصنوان : هي الأصول المجتمعة في منبت واحد ، كالرمان والتين وبعض النخيل ، ونحو ذلك . وغير الصنوان : ما كان على أصل واحد ، كسائر الأشجار ، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه، كما جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله – ﷺ – قال لعمر -رضي الله عنه-: « أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه ؟» .
وقال سفيان الثوري ، وشعبة ، عن أبى إسحاق ، عن البراء ، رضي الله عنه : الصنوان : هي النخلات في أصل واحد ، وغير الصنوان : المتفرقات.
وقوله : { يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } قال الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة-رضي الله عنه- ، عن النبي- ﷺ- : { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } قال : « الدقل والفارسي ، والحلو والحامض». رواه الترمذي وقال : حسن غريب .
أي : هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع ، في أشكالها وألوانها ، وطعومها وروائحها ، وأوراقها وأزهارها. فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة وذا عفص ، وهذا عذب وهذا جمع هذا وهذا ، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى.
وهذا أصفر وهذا أحمر ، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق. وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد من طبيعة واحدة ، وهو الماء ، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ]
وفي الآية ملمح آخر ذكره الامام ابن جرير الطبري -رحمه الله-؛ حيث قال: ذلك مثل ضربه الله عز وجل لقلوب بني آدم ،فكما ينزل الماء من السماء على قطع #الأرض المتجاورة ، فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتحيي مواتاها، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها، وكلتاهما { يسقى بماء واحد } فكذلك الناس خلقوا من آدم، فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو وتجفو، قال الحسن – رضي الله عنه – (واللهِ ما جالس القرآنَ أحدٌ إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان).