أفرد الامام البخاري-رحمة الله- في صحيحه باباً بعنوان (المداراة مع الناس) و أورد فيه حديثاً عن عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَنَّ أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- قالت: «أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ :«ائْذَنُوا لَهُ ، فَلَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ».
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ :«يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ»
قَالَ :«يَا عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ».
«اتقاء فحشه» أي لأجل قبيح قوله وفعله.
وفي لفظ : (يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ).
قال الإمام النووي-رحمة الله- : “وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُدَارَاة مَنْ يُتَّقَى فُحْشه … وَلَمْ يَمْدَحهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا ذَكَرَ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَيْهِ فِي وَجْهه وَلَا فِي قَفَاهُ , إِنَّمَا تَأَلَّفَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا مَعَ لِين الْكَلَام” (شرح صحيح مسلم)
“والمدَاراة معناها التلطف بالمدعو، وإظهار البشاشة له ومراعاته دون إخفاء، أو تحسين لباطل، أو تغير لحقيقة”. (العليمي، المداراة التربوية).
والمُدَاهنةُ تختلف عن المدَاراة، وقد ذكر الجوهري-رحمة الله- في كتابه الصِّحاح تعريفاً للمداهنة :” والمُدَاهنةُ كالمصانعة. والإدهَانُ مثله، قول الله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ وقال قوم : داهنت بمعنى واريت، وأدهَنتُ بمعنى غششتُ”.
وقال الجرجاني-رحمة الله-: “المداهنة هي أن ترى منكرا وتقدر على دفعه ولم تدفعه حفظاً لجانب مرتكبه أو جانب غيره أو لقلة مبالاةٍ في الدين” (التعريفات)
ويوضح الإمام القرطبي-رحمة الله- محل الفرق بقوله : “والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة : بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين، وهي مباحة ومستحسنة في بعض الأحوال، والمداهنة المذمومة المحرمة: هي بذل الدين لصالح الدنيا” (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم).
ومن خلال هذا المفهوم يمكن القول: إن المرونة والتي هي صورة من صور المداراة تختلف عن المداهنة، فالمرونة والمداراة جائزة بخلاف المداهنة فإنها محرمة. والعاقل يوازن في أفكاره وتصرفاته في جميع أمور حياته، وبخاصة في تعاملاته مع الناس، وليس ذلك لونا من ألوان النفاق والرياء، فهناك فارق كبير بين المرونة في معاملة الناس وبين نفاقهم ومداهنتهم ومدحهم بالكذب، فالمرونة تعني تقبل آراء الآخرين، وأن لا يقتصر الإنسان على جانب واحد من الحق الذي قد يختلف فيه، وهي نوع الاستجابة تمكن الإنسان من التكيف الإيجابي مع مواقف الحياة المختلفة، سواء كان هذا التكيف بالتوسط أو القابلية للتغير أو الأخذ بأيسر الحلول.
قال الإمام الحسن البصري-رحمة الله-: ” كانوا يقولون: المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه”، وعنه أيضًا: “المؤمن يُداري ولا يُماري، ينشر حكمة الله، فإن قُبلت حمد الله، وإن رُدَّت حمد الله” (الآداب الشرعية).
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبة.
# الكلام_ الصيّب