أعطى الله العبد الصالح لقمان الحكمة؛ وهي الفقه في الدين وسلامة العقل والإصابة في القول، وذكر في القرآن الكريم حوار لقمان مع ابنه، وهو يعلمه و يَعِظُهُ بأسلوب لطيف فيه رفق وتودد، وينبهه إلى مهمَّات الأمور وأجلِّ الوصايا، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، لقد بدأ لقمان الحوار بأسلوب النداء: يا بني، وهي من الكلمات التي تقرب الابن وتحبِّبه وتشعره بالأمان، فلَما تهيأت النفس لاستقبال النصيحة والموعظة بدأ بالموعظة الأهم، والوصية الكبرى في الحياة وهي الوصية الأولى، بألا يشرك بالله تعالى شيئًا، والأمر بعدم الإشراك بالله يستلزم منه التوحيد، ولعله علِم أنه سيرد سؤال على الابن: لماذا تأمرني بعدم الإشراك بالله يا أبي، فجاء بالتسبب الذي من أجله أمره بعدم الشرك، فقال: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، تعليل للأمر بعدم الإشراك، إنه لو أشركت فإنك تظلم نفسك غاية الظلم وأعظمه؛ إذ كيف تسوِّي مخلوقًا ناقصًا بالإله القوي القادر الغني العزيز الحكيم.
ثم أعقبه بالوصية الثانية، فبعد التوحيد وعدم الإشراك بالله، جاء قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، وانتقل لقمان في بيانه لابنه وهو مُنصت إلى وصية مهمة، وهي الوصية بالوالدين والبر بهما، فطاعة الوالدين تأتي بعد التوحيد؛ لِما لها من منزلة عظيمة في الإسلام، وقد جاءت كثيرا من الآيات بالوصية بالآباء وبرهما، والتحذير من عقوقهما، وخصوصًا عند كِبرهم، وكأنَّ لقمان يجيب على تساؤل قد يخطر على بال ولده، وهو أيهما أعظم حقًّا الأم أم الأب، ولماذا يجب عليَّ أن أُطيعهما وأبرهما، فأجابه أن كليهما لا بد من برهما، ولكن الأم حقها أعظم لتكبُّدها مشقة الحمل تسعة أشهر، ومكابدتها ألم الحمل والولادة والمخاض، فأنت قد غُذيت من لحمها، وأكلت من جسدها الهزيل، وشاركتها كل عناصرها الغذائية حتى أضعفتَ جسدها، ورق منها عظمُها، لذلك هي تحتاج إلى عناية أكبر، وبر أعظم، ثم استدرك لقمان وهو يحاور ابنه أنه قد يفهم أنه يطيعهم طاعة مطلقة؟ وكأنه ينظر إلى ابنه وهو يسأله هل نطيعهما في كل شيء؟! فجاءت الإجابة في قوله: ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فالطاعة للوالدين تأتي بعد طاعة الله ورسوله ﷺ واجبة فيما ليس فيه معصية فإذا أمروك بمعصية، فلا تطعهما ولا تمتثل أمرهما، ورغم ذلك فيجب مصاحبتهم بالمعروف، وبرهما والإحسان إليهما والتودد لهما.
ثم جاءت ثالثة الوصايا في قوله تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ هنا بدأ لقمان يرغِّبه في عمل الطاعات، ويرهبه من فعل القبائح والمنكرات، وبيان سعة علم الله وشموله، وإنه سبحانه لا يغيب عنه شيء مهما تناهى في صغره، أو اختفى عن الأنظار في أي جهة من جهات الكون، وهذ الجواب جاء بعد حوار مع ابنه وسؤاله؛ يا أبت ماذا إن عملت الخطيئة؛ حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فكانت أجابه لقمان بتقريب المعنى بشيء من المحسوسات، فذكر الخردل لبيان علم الله حتى هذه الحبة الصغيرة، وهو أدعى لرسوخ المعنى في الذهن ويكون أقرب للفَهم والاستيعاب.
والوصية الرابعة، ، فبعد أن علَّم لقمان ابنه أصول العقيدة، وفي مقدمتها التوحيد لله وعدم الشرك به، وبيان سعة علم الله ﷻ ، انتقل لقمان إلى تعليمية أعظم الأعمال الصالحة، وبدأها بالصلاة فهي عمود الدين، وهي الصلة بين العبد وربه، فيها يناجي ربه، وتستريح نفسه، ويطمئن قلبه فقال: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾، أمره بإقامة الصلاة، وإقامة الصلاة يكون بأدائها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها، والمواظبة عليها بوقتها.
ثم جاءت الوصية الخامسة، وانتقل لقمان في حواره مع ابنه لعمل صالح آخر فقال: ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ ، أمره أن يأمر الناس بالطاعات، ويحضُّهم على الخير، ويدعو إليه بالقول والفعل، فإنه من الطاعات العظيمة التي تحتاج إلى عزم وصبر، وأيضًا أمره أن ينهي الناس عن المعاصي والسيئات بقوله وفعله، فمن النصح للناس منعهم عن الشر وتثبيطهم عن ارتكابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد فيهما من العلم؛ حتى لا يأمر عن جهل أو ينهى أيضًا عن خير جاهل به، وهذا ما طبِّقه لقمان مع ابنه وهو يعظه ويوصيه.
ولَمَّا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور التي فيها مخالطة للناس، أتى بعدها بالوصية السادسة، وهي قوله: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ ، فالذي يأمر الناس وينهاهم لا بد أن يقع منهم عليه أذى وصدود وتضجُّر مِن فعله، فأمره بالصبر واحتمال الأذى في ذلك، وبيَّن له أن الصبر على الأذى من عزائم أهل الإيمان وصفاتهم، وأنه من مكارم الأخلاق وأحاسنه، وهو أعظم أجر من الذين لا يصبرون على أذى الناس.
ثم انتقل لقمان في الوصيته السابعة إلى الآداب في التعامل مع الناس والنهي عن الأخلاق السيئة، فقال: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ حيث نهى ابنه عن الميل بوجهه عن الناس احتقارًا لهم، والتفاخر عليهم بأي صورة من صور الاحتقار، سواء كان بالقول أو الفعل، أو الإشارة، وأن يعامل الناس سواسية كأنه واحد منهم، أو فرد في جماعتهم. ثم قال : ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ ، وينهاه عن المشي بين الناس بطرًا مختالًا، معجبًا بنفسه، بل لا بد أن يكون متواضعًا لهم، مساويًا لمشيتهم، ثم علَّل ذلك النهي والتساؤل الذي قد يقع في ذهنه وهو قوله: لماذا نهيتني عن المشي فرحًا، فقال: إن الله لا يحب كل مختال متبختر فخور، بل يبغضه ويَقليه.
ثم جاءت الوصية الثامنة بشقَّيها : ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ أمر لقمان ابنه أن يمشي مشية سوية، ليس فيها كبر أو بطر أو تفاخر، وأمره أيضًا أن يخفض من صوته، وألا يرفع صوته عند الحديث مع الناس، فإن أقبح الأصوات ما كان مرتفعًا لغير حاجة، وقد شبَّهه بصوت الحمار المرتفع لشدته وتأثيره في نفس الإنسان، فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن ، فقوله: ﴿ مِنْ صَوْتِكَ.. ﴾ فيه التبعيض، فليس كل صوت عالٍ مبغوض مذموم، فقد يحتاج الناس إلى رفع الصوت بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فلا بأس به، وخفضُ الصوت بحيث لا يُسمع ليس محمودًا أيضًا، فالإنسان يقدِّر الأمر، وينظر إلى أيهما أصلح، والاعتدال في كل الحالات مطلوب مرغوب.
وفي الختام، فإن هذه الوصايا العظيمة والنصائح القيمة التي ذكرها ربُّنا في سورة لقمان لما فيها من الآداب التربوية، والفوائد العلمية والعملية الجمة، واسلوب الحوار بين لقمان وابنه هي نموذج للحوار بين الأجيال (الأبناء والآباء والأجداد)، وهي منهج وركن أساسي من أركان التعلم والتعامل بين الأجيال على مر الأزمان، ولننتبه إلى أن العقائد والأعمال الصالحة والآداب العالية وحسن الخلق، لا تنبت هكذا في القلوب فجأة، وإنما تُبنى بنقاش جاد وحوار هادئ – بعيدا عن الجدل العقيم- في جو يملؤه الود والاحترام، ويحوطه الرفق واللين، فيثمر -بإذن الله- بما ينفع الجميع.
هذا ونسأل الله أن يعلِّمنا ما جهِلنا، ويفتح علينا ما استُغلق على أفهامنا، وصلَّى اللَّهُ عَلَى نبينا مُحَمَّدٍ وعلَى آله وصحْبه وسلِّم تَسْلِيمًا كثيرا.
[الألوكة الاجتماعية بتصرف واختصار]