استعجل مزارع بيع محصول شجر الكرز رغم إنه مجرد بضع حبات كرز ناضجة حمراء، والباقي ما زال أخضر؛ وقيل له اصبر قليلاً وسننال ثمنا جيدا للمحصول؛ فهي فقط عشرات من حبات الكرز الناضجة، وعلى بضع أشجار من جهة شروق الشمس، لكن المزارع قمع الدليل وغالط الحقيقة واتصل بقريبة التاجر “الوسيط” ليشتري منه الكرز أو يساعده في بيع المحصول؟!
أتى القريب ونظر حوله ثم خاطب المزارع : إن محصولك لم ينضج بعد، وأنا لن أدفع لك سوى مبلغ صغير مقابله، هنا صمت المزارع برهة ثم قال بصوت حزين “نعم معك حق، إن هي إلا بضع حبات ناضجة، لعن الله الشيطان لقد أراني أنه ناضجة، ولكن هلا ساعدتني، أريد سعرا معقولا للمحصول، وأرجوك لا تخبر أحدا بحديثنا فقد قالوا لي الحقيقة لكني نهرتهم؛ ضحك التاجر الوسيط، وقال له: لأنك قريبي سأتصل بأحد صغار التجار المتحمسين، وسأقنعه أن يشتري محصولك بمبلغ جيد، لكني أريد نصف المرابحة، ولن أخبر أحدا ، وفعلاً أتى ” الاستشاري الوسيط” مع تاجر جديد على المهنة؛ غير خبير، وأخذه الوسيط في جولة سريعة في البستان، وشاغله بالحديث والنظر لتراب الأرض البني المحمر، ويوقفه في الزاوية المناسبة ليرى حبات الكرز الناضجة، وعقدا صفقة رابحة أرضت المزارع على مضض، وأخذ حصته من المرابحة!!!
هذه القصة الافتراضية توضح المقصود بمصطلح مغالطة “انتقاء الكرز Cherry picking” أو “الالتقاطية”، والذي يشير إلى قمع الدليل، أو مغالطة الدليل الناقص هي الإشارة إلى حالات فردية من البيانات التي يبدو عليها تأكيد رؤية ما، مع تجاهل جزء كبير من الحالات أو البيانات التي تعارض هذه الرؤية. فهي نوع من مغالطات الانتباه الانتقائي، والمقصود في هذا المثال أن النظرة الاجتزائية للصورة أو الحقيقة الكلية توصل “صاحب المصلحة” إلى نتيجة توافق مصلحته، هي نتيجة خاطئة رغم أنها مبدئيا قائمة على دليل جزئي؛ فاستعجال المزارع للحصول على المال أخفى الحقيقة الكلية ، بل وحرضه أن يكذِّب نصح أقرب الناس إليه، لكنه انصاع للحقيقة يوم أتاه من اعتقد أنه أقوى منه غنى وأكثر خبرة، أما التاجر المستجد؛ عديم الخبرة، فقد كان من السهل صرفه عن رؤية الحقيقة من قبل التاجر الوسيط الفاجر (الغشاش)، الذي لم يكذب ويقول إن كل الكرز ناضج، بل غش وبيّن له جزء من الحقيقة؟!
هذا السلوك المنفعي الانتقائي، كحالة هذا المزارع الذي أراد أن يرضي طمعه واستعجاله، أو السلوك المندفع الساذج، كحالة التاجر المستجد عديم الخبرة (الذي لا يستشير)، هو سلوك منتشر بين الناس؛ أفراد وجماعات، وهو سلوك يعتمد على تبني منهجية انتقائية في قراءة الواقع، بتجزيئه إلى قطع صغيرة ثم انتقاء ما يناسب المصلحة منها.
أحيانا يكون هذا السلوك سلوكا غير واعٍ، بمعنى أن الشخص فعلا، ولسبب ما لا يرى كامل الحقيقة عن غير قصد، أو قد يكون واعيا ومدركا للحقيقة عن قصد، لكنه يريد إيهام الآخرين بعكس الحقيقة، كحالة الوسيط التاجر الغني.
هذا المنهج يفسر الكثير من التصرفات والمشكلات على المستوى الفردي والجماعي بين الناس؛ في العمل والعلاقات بين الأزواج والأقارب والأصدقاء والشركاء والفرق والجماعات والشركات والمنظمات والهيئات وغيرها؛ وهو أيضا يفسر الكثير من المفاهيم الخاطئة المنتشرة بين الجموع البشرية في كل مكان في العالم.
مرشّحات الفقاعات الافتراضية حسب طلبك
أكثر من استفاد من فهم سلوكيات هذه المغالطات الانتقائية هي شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث على الشبكة العنكبوتيّة (الإنترنت)؛ فهذه البرامج الخدمية تتضمن خوارزميات وبرامج تجمع معلومات عن توجهات ومزاجيات وتفضيلات المستخدم (البضاعة)، من خلال كل نقرة يقوم بها، ماذا يقرأ ويشاهد أكثر، أين يضع إشارات الإعجاب والمشاركة، أين يضع إشارات عدم الإعجاب، وما إلى ذلك، فتقوم هذه البرامج بتقديم ما يناسب أهواء هذا المستخدم، وهي خوارزميات تسمى “مرشّحات الفقاعة Filter bubble“.
وقد يتساءل البعض، لماذا أرى على صفحتي اقتراحات من قبل وسائل التواصل مثلا تتضمن منشورات أحب قراءتها أكثر من غيرها؟! ليس المقصود أن يظهر فقط ما يحب المستخدم، لكنه يحاول أن يزيد نسبة ما يفضله هذا المستخدم، فبرنامج “التشابك الاجتماعي أو محرك البحث يحاول تصغير الفقاعة المحيطة بالمستخدم، بما يحقق رغباته، وهي بالنهاية تصب في مبدأ “إرضاء الزبون”؛ لذلك نجد كثيرا من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي وقد أصبحوا يعيشون ضمنها بعواطفهم وتفكيرهم وغضبهم ورضاهم وسعادتهم وحزنهم، لأنهم وجدوا فقاعة افتراضية، انتقتها لهم خوارزمية البرنامج الخدمي، سواء كان تفاعلهم معها حب ومتعة أو كان كرها وغضبا.
فهل نختبأ ضمن فقاعة صٌممت لنا؟
الجواب هو لا.
الكثير منا يعيش ضمن فقاعة هم صمموها لا إراديا بمواصفاتها كلها، ولم يصنعها أحد لهم، فبين أكثر من ملياري مستخدم لا يوجد عشرين مليون فرد يجلسون في قبو يرسمون الفقاعات، هناك فقط نظام تطور ما بين التقنيات والحديثة وما بين قانون السوق والعرض والطلب ولا أخلاقيات الاستهلاك وجشع الشركات الرأسمالي، هذا النظام بدأ بخلق فقاعات نختبأ وراءها حسب -استخدامنا- طلبنا.
فتأمل الحال والمآل عند “انتقاء الكرز” والاختباء في “الفقاعات” ؟