﴿مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَا﴾

  • — الإثنين أكتوبر 23, 2023

قال الله عز وجل: ﴿مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَاۤ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣱ     (22) لِّكَیۡلَا تَأۡسَوۡا۟ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُوا۟ بِمَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالࣲ فَخُورٍ  (23)﴾ [سورة الحديد]

يقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره، أن ما وقع (ويقع) في الأرض من مصيبة ( أي جميع المصائب التي تصيب الإنسان في الأرض كالكوارث والفتن والحروب والجدب والمحن وغيرها)، أو في أنفسكم (أي الإنسان في ذاته من مرض وموت، أو فقد حبيب أو عزيز، أو فقد مال، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها) إلا وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلقها، وذلك أمر سهل وهين على الله تعالى، أخبرناكم بذلك؛ لكيلا تحزنوا على شيء فاتكم من الدنيا، ولا تفرحوا فرح بطر بما نلتم من متاعها، والله لا يحب كل متكبر فخور؛ ومن يعرض فإن الله هو الغني الحميد.

والإنسان المسلم إذا علم أن كل شيء مقدر ولا بد أن يقع رضي بما وقع، وعلم أنه لا يمكن رفع ما وقع من الأحداث والمصائب المكتوبة من الله من قبل، ولهذا يقال: دوام الحال من المحال، وتغيير الحال بمعنى رفع الشيء بعد وقوعه من المحال، فكن متوسطًا، لا تندم على ما مضى، ولا تفرح فرح بطر واستغناء بما آتاك الله من فضله؛ لأنه من الله.

وقفات تربوية..

  • لما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب أو خوف فواته، أو حصول مكروه أو خوف حصوله؛ نبه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله، وعلى فوته حيث لم يحصل، ونبه بعدم الفرح به -إذا وجد- على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها، وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع، وهذه هي أنواع المصائب، فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة، وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ هانت عليه، وخف حملها، وأنزلها منزلة الحر والبرد.
  • أخبر الله عز وجل عباده بذلك من أجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه؛ لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر؛ لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلون بشكر من أولى النعم، ودفع النقم.
  • فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظرا إلى القدر، وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار؛ قال تعالى: ﴿فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك﴾ ، أمره أن يصبر على المصائب المقدرة ويستغفر من الذنب، وقال تعالى: ﴿وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور﴾ ، وقال يوسف عليه السلام: ﴿إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾، فذكر الصبر على المصائب، والتقوى بترك المعايب، فالنظر إلى القدر عند المصائب، والاستغفار عند المعايب  .
  • تنبيه على أن المفرحات صائرة إلى زوال، وأن زوالها مصيبة، واعلم أن هذا مقام المؤمن من الأدب بعد حلول المصيبة، وعند نوال الرغيبة. قال يحيى بن معاذ الرازي: (يا ابن آدم، لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، ولا تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت).
  • الطمأنينة والراحة النفسية بما يجري على العبد من أقدار الله تعالى، فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه؛ لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السموات والأرض، وهو كائن لا محالة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن إذا أصابته مصيبة جعلها صبرا، فإن أصابه خير جعله شكرا”  .
  • متى آمن العبد بالقدر وعلم أن المصيبة مقدرة في الحاضر والغائب لم يجزع ولم يفرح، ولقد عزى الله المؤمنين رحمة لهم في مصائبهم، وزهدهم في رغائبهم، بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيدهم، ولأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله، فلا يزال العبد خائفا عند النقمة، راجيا أثر النعمة، قائلا في الحالين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مطمئنا بذكر ربه له في كلتا الحالتين، وقيمة المؤمن إنما تعرف بالواردات المغيرة، ومن لم تغيره المضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته.
  • قوله تعالى: ﴿والله لا يحب كل مختال فخور﴾ تحذير من الفرح، وفيه بيان للمراد من الفرح أنه الفرح المفرط البالغ بصاحبه إلى الاختيال والفخر.

والله تعالى أعلم