«استراتيجية الطعم والنزيف»

  • — الثلاثاء يونيو 04, 2024

وصف منظّر العلاقات الدولية “جون جي ميرشايمر” في كتابه عن الواقعية الهجومية، (مأساة سياسة القوة العظمى The Tragedy of Great Power Politics) ما سماه : “الطعم والنزيف Bait and bleed” ويقصد به الاستمالة والخداع أو الاستدراج أو الاصطياد؛ هي استراتيجية عسكرية الهدف منها هو حث الدول المتنافسة على الانخراط في حرب استنزاف مطولة ضد بعضها البعض «حتى ينزف كل منهما الآخر»، بينما يظل الطُعم الذي شجع الصراع على الهامش ويحافظ على قوته العسكرية.

ويصف “ميرشايمر” إستراتيجية مماثلة يسميها «إراقة الدماء»، والتي لا تنطوي على تحريض أو استدراج من قبل طرف ثالث، عندما يخوض خصوم دولة ما الحرب بشكل مستقل، فيكون الهدف هو تشجيع الصراع على الاستمرار لأطول فترة ممكنة للسماح للدول المتنافسة بإضعاف القوة العسكرية لبعضها البعض، بينما تبقى الدولة المعنية بعيدة عن القتال.

ويستشهد كمثال بجهود روسيا لاستفزاز النمسا وبروسيا للدخول في حرب مع فرنسا بعد فترة وجيزة من الثورة الفرنسية، كما يتضح من تصريح كاترين الثانية لسكرتيرتها في عام 1791: «إنني أرهق عقلي من أجل دفع بلاطات فيينا وبرلين في الشؤون الفرنسية. . . هناك أسباب لا أستطيع التحدث عنها؛ أريد أن أشركهم في هذا العمل لإطلاق يدي. لدي الكثير من الأعمال غير المكتملة، ومن الضروري أن يظلوا مشغولين وبعيدًا عن طريقي».

أبعاد المفهوم

تتجسد هذه الاستراتيجية في تصريح السناتور الأمريكي “هاري ترومان” في عام 1941 بشأن غزو ألمانيا النازية وحلفائها، إيطاليا والمجر وفنلندا ورومانيا للاتحاد السوفيتي: «إذا رأينا أن ألمانيا تنتصر، فإننا يجب أن نساعد روسيا، وإذا كانت روسيا تفوز فعلينا مساعدة ألمانيا، وبهذه الطريقة دعهم يقتلون أكبر عدد ممكن، على الرغم من أنني لا أريد أن أرى هتلر منتصرًا تحت أي ظرف من الظروف».

ومن الأمثلة الأخرى على هذه الاستراتيجية انسحاب روسيا السوفياتية من الحرب العالمية الأولى بينما استمر القتال في أوروبا بين ألمانيا وباقي الحلفاء. في تقريره إلى المؤتمر الثالث لعموم روسيا لسوفييت نواب العمال والجنود والفلاحين في عام 1918، جادل “فلاديمير لينين” أنه بالانسحاب من الصراع، «نتخلص. . . من كلتا المجموعتين الإمبرياليتين اللتين تقاتلان بعضهما البعض. يمكننا الاستفادة من صراعهم. . . واستخدام تلك الفترة التي تكون فيها أيدينا حرة في تطوير وتقوية الثورة الاشتراكية».

أنماطه الدولية

تختلـف أنماطه حسـب الهـدف المرجـو؛ فالاستدراج، قــد يكــون عســكريا كأن تعمــل دولــة علــى اســتدراج دولة  أخرى للدخول فــي الحرب لغرض استنزافها وقـد يكون اسـتخباراتياً، كأن يقــوم جهــاز اسـتخبارات أو تنظيم إرهابي باستدراج شـخص (أو أشخاص) للحصول على معلومات، وقـد يكون سياسياً، كاسـتدراج رعايـا دولـة عـدو إلـى دولـة ثالثـة بهـدف قتلهــم أو مقايضتهــم أو الضغــط علـى الدولـة لتنفيــذ مطالب سياسـية.

الأهداف الاستراتيجية

تسـتخدم اسـتراتيجية الطعم والنزيف أو الاستدراج فـي مسـيرة العلاقـات الدوليـة منـذ عقـود طويلـة؛ لتحقيـق أهـداف مختلفـة، سـواء السياسـية أو العسـكرية أو الاثنتـان معـاً، وذلك من خلال:

  1. اسـتنزاف الخصوم،
  2. إشـغال المنافسين بأزمات،
  3. الحصول على الدعم أو التوريط،
  4. إبعاد شركاء الخصوم وتفكيـك تحالفاتهم.

إشكاليات الاستراتيجية

يطــرح اللجــوء إلــى استراتيجية الطعم والنزيف الاستدراج عــدة إشــكاليات؛ أهمهــا أنهــا قــد تُخفــق فــي تحقيــق الهــدف المنــوط بهــا، ليظــل الصــراع قائمــاً مســتنزفاً كافــة أطرافهــا،. بالإضافة إلـى أنـه علـى عكـس المتوقـع قـد تخـرج الدولـة منتصـرة مـن الصـراع الـذي تـم اسـتدراجها نحـوه، ومـا قـد يترتـب علـى هـذا الانتصـار مـن تعزيـز قوتهـا فـي منظومـة العلاقـات الدوليـة، كما يؤثـر الاستنزاف الناتـج عن تطبيـق استراتيجية الاستنزاف على الاقتصاد الإقليمي والدولي، فيتحول من مجرد اسـتنزاف الدولـة المسـتهدفة، ليصيـب العالم كله، خصوصا ً إذا كانت هذه الدولـة مسيطرة على مورد من موارد الطاقة، أو مشاركة فـي مسـار سلاسـل التوريـد العالميـة. ومن بعـض هذه الإشكاليات:

  1. صعوبـة توقع رد فعل الطرف الـذي اسـتدراج بالاستنزاف،
  2. الخروج عــن الســيطرة وفقــدان القــوة،
  3. الارتدادات السـلبية علـى الاقتصاد بوجه عام.

الخلاصة.. القوى العظمى تعتمــد على مثل هذه الاستراتيجيات لإدارة الصــراع عن بعــد، حيث لا تكلفها مــوارد اقتصادية ضخمــة، ولا يترَّتــب عليهـا خسـائر بشـرية كبيـرة؛ وتستدرج الدول المتنافسة بالطعوم للانخراط في صراعات استنزاف مطولة ضد بعضها البعض حتى ينزف كل منهما الآخر، بينما يظل الطُعم الذي شجع الصراع على الهامش ويحافظ على قوته.

كفانا الله كيد الكفار ومكر الفجار وشر الأشرار وطوارق الليل والنهار يا عزيز يا رحيم.