الوهم بأن البيانات “موضوعية” تخفي حقيقة مفادها أن “الاعتماد على البيانات data-drive” نادراً ما تظهر لك الصورة الكاملة، وأن اتخاذ القرارات استناداً إلى مقولة “ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته” هي في الحقيقة وصفة لكارثة باهظة التكلفة.
نشر مدير التسويق السابق لشركة “نايكي” مقالاً نادراً عميقاً حول خطأ تسويقي ارتكبه منذ أربع سنوات؛ وأن هناك درساً عظيماً يمكن أن يتعلمه المنتج والمستخدم.
لقد استثمرت نايكي مليارات الدولارات في شيء من السهل قياسه، وأقل فعالية، مقابل شيء من الصعب قياسه، ولكن أكثر فعالية. فقد قرر الرئيس التنفيذي الجديد لشركة نايكي “جون دوناهو” بناءً على نصيحة ماكينزي، التحول إلى نهج مدفوع بـ”البيانات” لإعادة تنظيم الشركة نحو التركيز على المبيعات المباشرة للمستهلكين الرقميين، والقضاء على النموذج السابق الذي يركز على الفئات المميزة؛ ومن السهل لذو بصيرة أن يستنتج أن هذا “الإغراء”، وهو نفس “الفخ” الذي وقعت فيه شركة “بوينج” وشركات أخرى على مدى السنوات الماضية.
إن التوصل إلى أفكار جديدة أمر صعب، ويتطلب معرفة متخصصة لفهم ما يفعله هؤلاء المتخصصون وبالتالي إدارتهم؛ حيث تعمل عملية خفض التكاليف بنفس الطريقة -في كل الصناعات تقريباً-، ولذلك عملت شركة “نايكي” على التخلص من العمليات المكررة، وتبسيط العمليات، وتحسين الكفاءة، وزيادة الإنتاجية، وكل هذه تعني “مهما كان ما تفعله، فأبذل جهداً أكبر”.
النتيجة، خسارة 25 مليار دولار من القيمة السوقية وهبوط سعر السهم بنسبة 32%، وبالنسبة لأولئك الذين لا يعتقدون أن تلك الاستراتيجية لم تكن السبب، فمن الجدير بهم التفكير بموضوعية أين أخطأت الشركة؟!
الحدود الصارمة للبيانات
يقول مستشار الإدارة الدكتور “ويليام ديمينج” وصاحب مبدأ دائرة “ديمينج” للجودة: “من الخطأ أن نفترض أنه إذا لم تتمكن من قياس شيء ما، فلن تتمكن من إدارته ــ إنها خرافة باهظة التكلفة”.
البيانات ليست معدومة القيمة، بل لها قيمة لمعرفة ما حدث في الماضي، وتحتاج إلى إنفاق الكثير من المال لإنتاج بيانات يمكنها أن تخبرك بما يحدث في الحاضر، ولكن كما تظهر لنا رواتب المحللين الكميين في صناديق التحوط المكونة من 7 و8 أرقام، فإن استخدام البيانات لاستقراء (التنبؤ) ما سيحدث في المستقبل هو أحد أكثر الأشياء تحديًا التي يمكنك محاولة القيام بها من خلال جمع ما يسمى بالبيانات الدافئة – البيانات النوعية التي تعطي الأرقام معنى – ثم استخدامها لسرد قصة حول اتجاه الأرقام. لكن لسوء الحظ، هذا ليس ما يفعله الإعلان عبر “الإنترنت”؛ لإن النتيجة الأكثر شيوعًا للاستعانة ببيانات الإعلانات: “أنه إذا اشتريت أريكة، فهذا يعني أنك بحاجة إلى المزيد من الأرائك”.
إن المسوقين والتجار يدركون هذا الأمر جيداً، ولهذا السبب قد ترى المناشف الورقية بجانب صلصة الشواء، أو الكعك و”الهوت دوج” معًا في متجر، يمكن للبشر إثراء عبارة “اشتري خبزًا” ببيانات عن الإضافات التي توضع على الخبز لخلق تجربة تسوق ممتعة، ولكن الحصول على البيانات النوعية ــ حتى البيانات التي يتم تغذيتها للذكاء الاصطناعي ــ هي الواقع أصعب مما قد نتصوره.
ولذلك، فإن قرار شركة “نايكي” بإلغاء فئات المنتجات للأفراد التي يمكنها حشد هذا النوع من الخبرة لصالح نموذج بيانات عام يناسب الجميع خلق مشكلة كان يمكن التنبؤ بها؛ فقد أدى هذا إلى نموذج أشبه بتوزيع النشرات الإعلانية لمتجر “البيتزا” في بهو محل “البيتزا”، وجعل الشركة تعيد تنظيم نفسها وتضخ المزيد من الأموال لجذب عملاء جدد هم بالفعل عملاءها؟!!
دوامة الموت التي تحركها البيانات
يقول “جاريد سبول” -كاتب وباحث وخبير مواضيع قابلية الاستخدام والبرمجيات-: “إن قياس الأشياء الخاطئة هو طريق سريع إلى الكارثة”.
الدافع وراء “العمل الإبداعي” الذي يتكون من العلامة التجارية، والتسويق، والتصميم، هو دافع لتغيير السلوك؛ حيث يمكن العملاء من القيام بشيء جديد – سواء من خلال إعلامهم بوجود خيارات أو جعل اختيار خيار محدد أكثر جاذبية وفعالية من غيره.
من هنا تبدأ المشكلة؛ لقد كانت إستراتيجية “نايكي” الخاطئة تتمثل في جلب بيانات عن العملاء الحاليين؛ أولئك الذين لا يحتاجون أصلاً إلى تغيير سلوكهم؟!!
هذا الخطأ الاستراتيجي شائع في أغلب الصناعات – فالمشاركون الأكثر تكرارًا وأعلى صوتًا وصراحة هم الأقل تمثيلاً للسوق الإجمالية التي يمكن معالجتها؛ والأشخاص الذين لا يستخدمون منتجك -أو لا يستطيعون استخدامه- بالكاد يظهرون في البيانات، ولذلك يكون الوصول إلى البيانات الخطأ والأسهل، والتوقف عند هذا الحد من البيانات المغرية؛ وهذا بالضبط ما فعلته إدارة شركة “نايكي” من خلال الاستعانة ببيانات التسوق عبر الإنترنت التالي ابتعدت أولويات منتجاتها بسرعة عن النوع الذي كان يشتريه المتسوقين العاديون، وتكدست المنتجات التي تحظى بقبول جماهيري في المستودعات، بسبب نقص الأماكن التي تبيعها لهم.
وكلما طالت مدة مطاردة شركة “نايكي” لهؤلاء “العملاء الهامشيين” انتقل المزيد من المتسوقين العاديين إلى منتجات المنافسين، بسبب التفكير الجامد المدفوع بالبيانات الرقمية المغرية.
يقول “جريجوري باتيسون” -عالمًا اجتماعيًا ولغويًا وعالمًا أنثروبولوجيا-:”لقد جرى صنع ولع بالأساليب الكمية، وتخصيص مختبرات كاملة لحل المشكلات التي كانت أهميتها ضئيلة للغاية باستخدام الآلات الإحصائية المعقدة”.
الحقيقة أن هذا الخطأ ارتكبه محترفون أذكياء وذوو خبرة، وكانوا يعتقدون أيضًا أنهم يفعلون الشيء الصحيح، ولا يكفي أن نحدد أنهم كانوا مخطئين؛ بل نحتاج إلى فهم السبب في تلك اللحظة، وأن الخطأ هو أفضل طريقة للمضي قدمًا؛ فما تزال شركة “نايكي” واحدة من أكثر العلامات التجارية قيمة في العالم، وقد نجحت ملاحقة “الحيتان” مع العديد من الشركات الأقل قيمة منها، وفي بيئة محفوفة بالمخاطر (مثل عام 2020)، من السهل أن نرى كيف يكون الحال.
إن الأمر يتطلب الكثير من الشجاعة والإقناع للرد على السرد السائد، ويتطلب ايضاً مهارات بحثية لتشكيل فرضية مستنيرة، وحسًا تجاريًا لإقناع الأغلبية -الأفراد محدودي الدخل- بضرورة تجربة المنتج.
ومن الجيد أن تستغل نقاط قوتك، وتحصل على زيادة مضمونة عمليًا بنسبة 10% (أو أيًا كانت النسبة)، وأيضًا يمكن أن تغمض عينيك، وتتظاهر بأن نسبة 10% لن تأتي على حساب خسائر أكبر في أماكن أخرى بناءً على مقاييس البيانات المغرية، وإذا تحدثت بصراحة (شفافية) فقد تكون وظيفتك على المحك في الجولة التالية من عمليات التسريح.
التحقق مما يعتقده الأشخاص الذين يعرفون المنتج أصلاً أمر سهل ومريح، لكنه لا يضيف شيء جديد أو قيمة؛ لإن القيمة لا تأتي من رفع مستوى الأفراد المرتفعة أصواتهم، بل تأتي من العثور على الأفراد الذين لا يتم الاستماع إليهم (قياسهم) وبالتالي إضافة أصواتهم الى البحث كي يمكن رؤية الصورة كاملة واتخاذ القرارات السليمة!
( Aug, 2024 | UX Design)