البصيرة

  • — الإثنين أكتوبر 14, 2024

حقيقة البصيرة فإنها ما يكون به اتضاح الحق من الباطل، وإدراك الأمور على حقائقها، فهي اسمٌ للإدراك التام الحاصل في القلب، وأصل ذلك من الظهور والبيان، والله -تبارك وتعالى- وصف هذا القرآن بأنه بصائر {هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} [سورة الجاثية]، أي: أدلةٌ، وهدى، وبيان يقود إلى الحق، ويهدي إلى الرشد.

والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين، يبصر بها المعلومات والحقائق كما هي، فهي عين القلب، كما أن البصر عين البدن. ومنزلة البصيرة في الدين ومدارها في كمال إيمان العبد يرجع إلى أصلين اثنين:

الأول: هو معرفة الحق الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

والثاني: هو العمل بهذا الحق، والناس إنما ينسفِلون ويهبطون إما بسبب جهلهم بالحق، وإما بسبب ترك العمل به.  وبهذا تتفاوت مراتبهم، ودرجاتهم في الدنيا والآخرة.

فأحياناً يكون الحق منبهماً على الإنسان، ملتبساً، وكم من واحدٍ لربما يبحث، ويراجع، ويطالع، ثم يخرج على الناس بعد ذلك بنتائج مقلوبة. والعبد بحاجة دائماً إلى أن يسأل ربه أن يلهمه رشده، وأن يسدده في قوله، وعمله ورأيه، وحكمه.

وكثير من الناس قد يعرف الحق، ولكنه لا يعمل بمقتضى هذه المعرفة والعلم، والله -تبارك وتعالى- يقول: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} [سورة ص]. فأثنى الله -تبارك وتعالى- عليهم، فالأيدي: بمعنى القوة في تنفيذ الحق، والعمل به. والأبصار: هي البصائر في الدين. فجمع الله -عز وجل- لهم هذا، وهذا، معرفة الحق على ما هو به، وكذلك القوة في تنفيذه، والقيام به ظاهراً وباطناً. فهذا هو الكمال الحقيقي لمن أراد أن يحصّل الكمالات.

وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنهم أولي القوة والعبادة،

وجاء عن قتادة، ومجاهد: أُعطوا قوةً في العبادة وبصرًا في الدين.

فأعلم الناس هو أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه، وإن كان مقصراً في العمل؛ وقد جاء عن بعض السلف -رحمهم الله تعالى- وقد ذكر الأولين من سلف هذه الأمة، فقال: إنما كانوا يعملون على البصائر، وما أُوتي أحدٌ أفضل من بصيرةٍ في دين الله، ولو قصر في العمل.

فالبصيرة: هي الأمر الكاشف الذي يعرف الإنسان به ربه -تبارك وتعالى- معرفةً صحيحة، ويعرف به الطريق الموصل إليه، وهو ما شرعه على ألسُن رسلهِ -عليهم الصلاة والسلام-، وبه يعرف الدار التي يصير الناس إليها.

وأما درجاتها: فقد ذكر بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم – رحمه الله – أنها على ثلاث درجات:

المرتبة الأولى: ما يتصل بالله -تبارك وتعالى-، أن يعرف العبد ربه معرفةً صحيحة بأسمائه وصفاته، فإذا عرف المعبود خافه ورجاه، وعبده، وعظمه، ولم يتعاظم المخلوق فيصير في حالٍ يراقبه العبد أعظم من مراقبته لله -تبارك وتعالى-، أو يخاف منه أعظم من خوفه من ربه -جل جلاله، وتقدست أسماؤه. فلا يكون الله -تبارك وتعالى- أهون الناظرين إليه.

وكثير من العلل، والأدواء، والآفات التي تعتري السالكين إلى الله -جل جلاله- إنما يكون ذلك بسبب أنهم ما عرفوا الله المعرفة اللائقة بعظمته وجلاله، فاجترؤوا عليه، وصاروا يتعاملون معه تعاملاً قاصراً، بحسب ما وقع في نفوسهم من القصور في معرفة خالقهم جل جلاله.

المرتبة الثانية: هي معرفة الأمر والنهي، فيعرف مراد الله -جل جلاله-، ويعرف حدوده ويلزمها، وهذا الذي يورثه لزوم الصراط المستقيم والتقوى، ويكون العبد بهذا محققاً للعبودية لله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

ولا يكون في قلبه أدنى معارضة لأمر الله، وشرعه، ونهيه، وهكذا في أقضيته وأقداره، فيكون العبد في حالٍ من التسليم للأمر الشرعي، وللأمر الكوني القدري القضائي.

وذلك ينبني على ما قبله، فإن العبد إذا عرف أن ربه عليم، وأنه حكيم، لا تخفى عليه خافية، وأنه يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فإنه في هذه الحال يطمئن إلى تشريعه، فلا يعارضه بأدنى معارضة.

ثم إنَّه يطمئن إلى أحكامه القدرية، فلا يعترض، ولا يتسخط على أقدار الله -عز وجل-، ولا يكون أيضاً هناك شهوةٌ غالبة، تغلبه فيترك أمر الله، أو يقع فيما حرمه الله، ويكون بهذا متبعاً لهواه.

المرتبة الثالثة: وهي البصيرة في الوعد والوعيد.

من نظر في كثير من الآيات التي ذكر الله -عز وجل- فيها تفاصيل الآخرة، وما يقع من الجدال بين الأتباع والمتبوعين، وما يقع من السؤالات والمحادثات التي تكون بين أهل الجنة، أو التي تكون بين أهل النار، كقول بعض أهل الجنة: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51]، إلى آخر ما قص الله -تبارك وتعالى- في سورة الصافات- شعر كأنه يشاهد ذلك. ولهذا كانت الغفلة غالبة بضعف اليقين، فالإنسان يعلم أنه سيموت، وأنه سيحاسب، ويؤمن بالجنة والنار، ومع ذلك يجترئ على الله -عز وجل-، ويعمل المعاصي، ويترك الطاعات، كأنه لن يحاسب.

فعلى العبد يكون بحال كأنه يرى الدار الآخرة أمام عينيه، فإذا وقف بين يدي الله -عز وجل- وصفّ قدميه في الصلاة فهو يتصور أنه واقف على الصراط، واقفٌ بين الجنة والنار، وهو يتصور الدار الآخرة بتفاصيلها التي أخبرنا الله تعالى عنها، كأنه يشاهدها ويراها.

فيعمل بمقتضى هذا العلم، وهذه البصيرة التي صارت في قلبه، فأضاءت له الطريق، وعرف ما هو مقدم عليه، فصار يعمل لذلك اليوم، ويستعد للقاء ربه -جل جلاله.

هذه حقيقة البصيرة، ودرجاتها، والله تعالى أعلم.

نسأل الله -عزوجل- أن يعيننا على أنفسنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علما، أن يثبتنا جميعاً بالقول الثابت في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.