اقتصاد التجارب!

  • — الأحد أكتوبر 20, 2024

مرّ التطور الاقتصادي بأربع مراحل (السلع، البضاعة، الخدمات، الخبرة أو الاستعانة بشركة تنظم وتوصِل)، ويمكن تمثيل ذلك بخلط السلع الزراعية (الدقيق والسكر والزبدة والبيض) لصناعة كعكة في المنزل بتكلفة ضئيل من المال، ثم مع تقدُّمِ الاقتصاد الصناعي القائم على السلع المصنعة، وأصبح قيمتها أعلى للحصول على نفس المكونات والمخلوطة مسبقاً من علامة شهيرة لصناعة الكعك، ومع تقدم اقتصاد الخدمات أضحى طلب الكعك الجاهز من المخبز أو محال الحلويات، ولكن بتكلفة أكبر قد تبلغ قرابةَ عشرة أضعاف كلفة المكونات المُعبَّأة مسبقاً، والآن يمكن إنفاق مئة إلى ألف ضعف من أجل الاستعانة بـ “مُورِّدين خارجيين” لإقامة حفلة منزلية لا ينساها الأهل، وستقدّم الجهة التي تنظم الحفل الكعكة مجاناً؛ وهذا ببساطة “اقتصاد التجارب Experience Economy [.]

القيمة الاقتصادية لتجربة المستهلك

واليوم؛ بات بالإمكان تحديدُ وصف أفضل لهذه المرحلة الرابعة من التطور الاقتصادي؛ لأنَّ المستهلكين أصبحوا يرغبون في مزيد من التجربة، فازدادت أعداد الشركات المتفاعلة مع رغباتهم عبر تعزيز هذه التجربة صراحةً، وفضلًا عن ذلك؛ أصبحت الخدمات وعلى نحو متزايد سلعةً بحدّ ذاتها، مثل السلع المعروضة التي كانت تُقدَّم معها؛ التي تُحدَّدُ أسعارها وفقاً للتجارب؛ إذ ظهرت كخطوةٍ تاليةٍ فيما يسمى “تطور القيمة الاقتصادية”.

لقد كان هناك تجاربُ عشوائيةٌ في مجال اقتصاد الخدمات، في حينِ تبدو “التجربة” عرضاً اقتصادياً مختلفاً عن ذاك الذي تقدمه “الخدمات”، التي يُنظَرُ إليها بوصفها خدماتٍ مرافقة للسلع. ومن الآن فصاعداً؛ سوف تجد الشركات الرائدة -سواء كانت تبيع للمستهلكين الأفراد مباشرة (B2B)، أو للأعمال (B2B) – أن معركتها التنافسية القادمة تكمن في كيفية تنظيم تجربة المستهلكين.

السؤالُ القائم الآن ليس فيما إذا كانَ يجبُ الدخول في اقتصاد التجربة أم لا، بل السؤال هو: كيف ومتى يمكن أن يحدثُ ذلك؟

تجربة المستهلك بناءً متبلور وعرضٌ حقيقي كتقديم أيّةِ خدمةٍ أو سلعةٍ أو منتج، وفي اقتصاد الخدمات؛ تحاول العديد من الشركات تضمينَ تجارب المستهلكين مع عروضها التقليدية لبيعها على نحوٍ أفضل، ومع ذلك؛ ولتحقيقِ الاستفادة الكاملة من تنظيم التجارب؛ يجب أن تصمم مجموعةً من التجارب الجديدة التي يمكن أن تتقاضى لقاءها قيمة؛ وهو أمراً لن يكونَ سهلاً في التحول من بيع الخدمات لبيع التجارب، لا سيما بعد التحول الاقتصادي الكبير من الصناعة إلى اقتصاد الخدمات؛ وهذا يعني أن الأعمال التي لا ترغب في التحول إلى أن تكون مجرد سلعةٍ، لا بدَّ لها من أن تنجزَ ترقيةً سريعةٍ لخدماتها إلى القيمة الاقتصادية لتجربة المستهلك.

خصائص التجارب ومبادئ تصميمها

لا بدَّ أن نقدّر الفرق بين الخدمات والخبرات جيداً؛ التجربة تتكوّن عندما تستخدم عمداً الخدماتِ كمرحلة، والسلعَ كدعائم؛ لإشراكِ المستهلكين الأفراد بطريقةٍ تخلق حدثاً لا يُنسَى، وغالبًا ما تكونُ السلعُ قابلةً للتبديل، في حين تمثّلُ السلعُ الملموسةُ والخدماتُ غيرُ الملموسة تجاربَ لا تُنسَى.

وفي الوقت الذي كانت فيه العروض الاقتصادية فيما مضى تعتمد على السلع والمنتجات التي تُعَدُّ جميعُها شيئاً خارجياً للمشترين؛ فإن التجارب تقدم أمورا شخصية عميقةً تتموضع في ذهن الزبائن، وتتصل مباشرة بتجاربهم الفيزيائية والمعنوية والعاطفية مع المُنتَج.

وفي حالِ إمكانية تشابه المنتجات؛ فإنَّه لا يمكن أن تتشابه أبداً التجاربُ التي تختلف من زبونٍ إلى آخر، وتبدو كأنَّها حالة تفاعل -مشهد مسرحي- ما بين حادثةٍ معينةٍ وعقل الزبون نفسه.

ويقدّرُ مشترو الخبرات كثيراً ما تقدمه لهم خلال فترةٍ زمنيةٍ معينة، وهم يبحثون عن تجربةٍ متميزة؛ كتلك التي يقدمها عملاق اقتصاد التجارب شركة “والت ديزني” لزائريه، وتدعوهم جميعاً بالضيوف!

الخبرات التفاعلية

لطالما كانت الخبرات دائماً في قلب الأعمال، ولكن في يومنا هذا؛ يتجذر مفهوم بيع تجربة في الشركات البعيدة المواقع، وتُشجِّعُ التكنولوجيا الحديثة -على وجه الخصوص- أنواعاً جديدةً كاملةً من الخبرة؛ إنَّ قوةَ المُعالَجةِ المتزايدة المطلوبة لتقديمِ تجاربَ أكثر قوة من أيِّ وقتٍ مضى تدفعُ الآن الطلب على السلع والخدمات في الصناعة الحاسوبية، وقال رئيسُ شركة “إنتل” (أندرو غروف) في خطابٍ ألقاه في معرض “كومديكس” التجاري في مجال الحاسوب: “نحن بحاجةٍ إلى النظر إلى أعمالنا أكثرَ من مجرد بناءِ أجهزة الحاسوب الشخصية وبيعها، فعملنا هو تقديم المعلومات والخبرات التفاعلية النابضة بالحياة”.

وفي المطاعم ذات الطابع الخاص أو المقاهي، أو المخازن الكبرى، تجذبُ المستهلكين بتقديمِ العروض والأنشطة الترفيهية، والأحداث الترويجية، وهو ما يُسمَّى ” التسوق المسلّي”.

لكنَّ التجاربَ لا تقتصرُ على التسلية، ولا تقتصر أيضاً على الصناعات الاستهلاكية فقط، بل تشمل قطاعات الأعمال التي تتعامل مع الناس العاديين والأعمال، وتحرص على بناء تجاربها، بحيث يُشرَكُ المتعاملين بطريقة شخصية لا تُنسى.

على سبيل المثال؛ شركةَ “مينابوليس” لخدمات التركيب والتصليح الحاسوبي تُطلَق على نفسها اسم “غيك سكواد”، ويرتدي وكلاؤها زيّاً يميزهم، عبارة عن قمصان بيضاء مع ربطات عنق سوداء رقيقة، ويضعون حقائب جيب خاصة، وشاراتٍ تحمل أسماءهم، كما يقودون السيارات القديمة، فيحوّلون خدماتهم إلى تجارب لا تُنسَى بالنسبةِ إلى المتعاملين معهم؛ وما تدفعه يتحدث عنك تماماً وعن تجربتك!

وفي الوقت الذي يمر فيه قطاع الأعمال بتجارب متعددة، فإنَّ معظمها تأخذ مبالغاً على سلعها وخدماتها، وتنتقل من مرحلةٍ اقتصاديةٍ إلى مرحلةٍ تاليةٍ بخطواتٍ تدريجية دون خبرات تفاعلية، مما قد يؤثر مستقبلاً على نموها.