إن انتحار شاب يبلغ من العمر 14 عامًا مؤخرًا لأنه أصبح مهووسًا ببرنامج دردشة ذكي في تطبيق يسمى Character.AI هو أحد تلك اللحظات المروعة للغاية، وفي بعض الأحيان، توفر نافذة -للعقلاء- على مستقبلنا.
تتمتع “التكنولوجيا” بتاريخ طويل من الاعتقاد بأنها قادرة على حل المشكلات المجتمعية العميقة الجذور؛ وهو كما جاء في رواية الساخرة “Don’t Look Up”؛ فبدلاً من الاستعداد لكيفية التعامل مع نيزك قادم قد يؤدي إلى نهاية العالم، وضعت الحكومات مصيرها في أيدي قطب التكنولوجيا، الذي أفسد الأمر على نحو مذهل، وحكم على البشرية بالموت.
وفي العالم الحقيقي، هناك الكثير من هذه الأمثلة:
فكر في السباق لتطوير السيارات الكهربائية بدلاً من تحسين البنية الأساسية وجعل وسائل النقل العام في متناول الجميع.
أو فكر في تغيير مستقبل العمل من خلال ربطنا بسماعات رأس افتراضية بدلاً من تحسين ظروف العمل.
أو فكر في تحسين فرص العمل من خلال تحويل القوى العاملة إلى عمال توصيل طعام أو سائقي سيارات أجرة يتقاضون أجوراً زهيدة، ويعملون لساعات طويلة، وكل ذلك باسم “التغيير”.
إن “الطريقة التقنية” لحل المشكلات المجتمعية تتجاهل السبب الجذري لها، وتخلق بدلاً من ذلك جهازاً/خدمة يمكن تحقيق الربح منها من خلال التوسل بشأن القضية التي من المفترض أن تحلها.
إن الاتصال الاجتماعي، والشعور بالوحدة هما جبهتان اعتبرتهما التكنولوجيا قضيتين جديرتين بحلهما؛ لذلك -ونموذجيّاً- أصبحنا نشعر بالوحدة أكثر من أي وقت مضى، ونعاني أزمة صحية عقلية متصاعدة.
والآن، وفي محاولة للاستفادة من دورة الضجيج الحالي تركب شركة GenAI هذه الموجة، وتروج لنفسها باعتبارها الإجابة الآلية المستقلة باستخدام الأجهزة المادية، وكان المثال الأكثر فظاعة على ذلك هو جهاز المسمى الصديق Friend؛ جهاز يباع كحل للوحدة، ولكنه لم يؤد إلا إلى تفاقم المشكلة؛ فأنت لا تتفاعل فقط مع أسطر من التعليمات البرمجية، وتشارك في “محادثة” مع آلة بدلاً من إنسان، بل إنك أيضًا تجري نصف هذا التفاعل من خلال التحديق في هاتفك.
أما الاختراق “الخرافي” الآخر فهو حل “روبوتات” الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وهو أحد أكثر التطورات المخيفة المزعجة التي خرجت من موجة الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وسواء كان الأمر يتعلق بإنشاء شخصيات مزيفة، أو منحها بيانات لتتصرف مثل شخص تعرفه، أو ما إذا كانت تستند إلى المشاهير، فإن المفهوم -إلى حد كبير- غير متوازن وغير سليم.
وهناك مجموعة كاملة من القضايا أيضًا: مشكلات الخصوصية المتعلقة بالمعلومات الشخصية، والمخاوف بشأن جمع (سرقة) البيانات، والأهم من ذلك كله، الاستنتاج الواضح تمامًا أنها لن تساعد في حل وباء الوحدة بأي وجهٍ من الوجوه.
لماذا؟
لأنه ببساطة مزيف، مثله كمثل عالم ميتا فريسا Metaverse أو أي عالم افتراضي آخر؛ يُقال وبصوت عالٍ اسمه: الذكاء الاصطناعي.
ففي الواقع، يعزلنا عن المجتمع، وعن التفاعل مع البشر الآخرين، وعن تعلم المهارات الأساسية المطلوبة للعمل في العالم الحقيقي، إنه اتصال على أكثر المستويات سطحية؛ كل ما يفعله هو ترك المستخدم عالقًا في غرفة صدى صوته، في عالم غريب يميل إلى تلبية كل احتياجاته، ويغذيه بما يريد سماعه، ويحوله إلى نقاط بيانات يمكن استهدافها والتلاعب بها.
وهناك كثير من حالات الاستخدام مفترسة؛ كإعطاء الناس فرصة لإنشاء “روبوت” محادثة أو صورة رمزية لشخص مات، أحد أفراد الأسرة أو صديق، يتعارض مع مفهوم الحزن، وهو جزء من الحياة يجب أن نتعلم التعامل معه كبشر، لكن “روبوتات” المحادثة تستغل هذه الغريزة ومحاربة هذه العملية الإنسانية.
ماذا عن فرصة الدردشة مع المشاهير المرفهين؟ بالتأكيد، قد يثير اهتمامك، لكننا لا نملك بعض الحق المقدس في هذا الوصول (المزيف).
أيضًا فكرة تصميم “الشخص المثالي” للتفاعل معه، وهو أمر وهمي لأنه، لا وجود له، وأن جزءاً من الحياة هو تعلم كيفية التعامل مع هذا الأمر.
وكما سبق أن كتبت في مقال “شركات التكنولوجيا الكبرى تفسد عليك عقلك”: نحن محكوم علينا بالهلاك كمجتمع إذا أصبحنا نعتمد على الذكاء الاصطناعي للمساعدة في أبسط التفاعلات وعمليات التفكير الطبيعية؛ إذا لم نتمكن من القيام بأكثر الإجراءات الأساسية شيوعًا مثل إرسال رسالة إلى أحد الأحباء، أو فهم تفضيلاتنا وأذواقنا واهتماماتنا وقضاء الوقت في البحث عن الأشياء التي ترضيهم (أحد الأشياء الرائعة في الحياة)، فهذا تصوير قاتم للمكان الذي نتجه إليه.
إن تعلم كيفية العمل كإنسان في المجتمع هو أحد هذه الإجراءات الأساسية البسيطة، لا نعتقد أنه يمكن الوثوق كمجتمع في استخدام برامج الدردشة الآلية بطريقة آمنة ومنفصلة.
لقد ظهرت ألواننا الحقيقية من خلال الهواتف الذكية والأجهزة المتصلة بالإنترنت والبث المباشر والمراسلة ووسائل التواصل الاجتماعي – فنحن لا نبدي أي مقاومة تقريبًا للإدمان والتعلق بها؛ فبمجرد أن تتشابك هذه الأجهزة والمنصات مع حياتنا، نجد أنه من المستحيل تقريبًا الانفصال عنها.
لن تكون برامج المحادثة الآلية مختلفة إذا وصلت إلى مستوى متطور بما فيه الكفاية؛ ولا ننسى أن سادة التكنولوجيا لدينا الذين يبيعون أنفسهم على أنهم الحل يريدون أن يكون هذا هو الحال.
إن النتيجة النهائية دائمًا هي المشاركة، التي يمكن تحقيق الدخل المادي منها؛ إنه أمر خطير جداً؛ كلما زاد إفسادهم لعقلك وكلما أصبحت معتمدًا على هذه المنتجات، زادت الأموال التي يكسبونها هؤلاء المتوحشين.
وفي قضية المراهق “سيويل سيتزر الثالث” البالغ من العمر 14 عامًا، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أنه طالب في الصف التاسع بدأ بالتفاعل مع “روبوت” محادثة يُدعى “داني”، وهو نموذج لشخصية “دينيريس تارجاريان” من مسلسل “صراع العروش”؛ وكان كثيرًا ما يشارك بمعلومات شخصية، ويلعب دورًا مع شخصية الذكاء الاصطناعي، وغالبًا ما ينغمس في محادثات رومانسية أو جنسية، وكان مهووسًا بالتطبيق، وجرى تشخيصه بالقلق وتقلبات في المزاج قبل أن ينتحر. وقد رفعت والدته دعوى قضائية ضد شركة “كاراكتير.إيه آي Character.AI “.
“والدعوى تجعلك حزيناً عندما تقرأها، فقد جاء فيها: ” في أثناء برمجة ” كاراكتير.إيه آي” استهدف صانعو “روبوتات” الدردشة “سيتزر” بـ”تجارب مجسمة ومفرطة في الجنس وواقعية على نحو مخيف، لتقديم نفسه على أنه شخص حقيقي، ومعالج نفسي مرخص، وعاشق بالغ، مما أدى في النهاية إلى رغبة [سيتزر] في عدم العيش خارج التطبيق، حيث انتحر عندما لم يستطع الوصول إليه [.] ”
والمحزن والمؤسف أن الخطاب الأكثر شيوعًا هو أن التطبيق لا ينبغي أن يغير، وبدلاً من ذلك “حظر الأطفال فقط لأن البالغين يتمتعون بصحة عقلية كافية لاستخدام التطبيق بأمان.”
بالتأكيد يجب إبعاد الأطفال عن هذه التقنية المفترسة التي تسمح للأطفال في سن 13 عامًا باستخدامها (!)؛ إلا أننا نتجاهل حقيقة صعبة: سواء كان بالغاً أو طفل، فلا يوجد شيء صحي في تكوين علاقة من أي نوع من أي شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي، ويجب أن نفعل كل شيء كمجتمع لتثبيط أي شكل من أشكال الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، ولا سيما اعتباره عكازًا لمعالجة الوحدة.
إن حل هذه المشكلة يتجاوز بكثير أي شيء يمكن لأباطرة التكنولوجيا أن يحاولوا فرضه على المجتمع!
* Trend Mill