«عُمَّارُ المساجد حِسّيًّا ومَعْنويًّا»

  • — الأربعاء نوفمبر 13, 2024

عُمَّارُ المساجِد بيوت الله -العِمارةَ الحِسّيّة- بِرَفْعِ بنائها؛ هم صفوةُ الخلقِ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعِهم بإحسان إلى يوم الدين.

والمسجد له دور في حياة المسلمين، فهو أساس شخصية المسلم وتكوين خُلقه وعبادته وعلاقته بربه  والمؤمنين؛ فالمسجد يُعدّ مركز تربية وتهذيب للنفس؛ فمن المسجد تصعد الأعمال الصالحة، وفيه تنزل الرحمة، وتتهذب الأخلاق، وتصفو النفوس، ويحصل ترابط المؤمنين، وتقوى أخوتهم؛ ولما هاجر النبي -ﷺ-، لم يستقر به المقام -ﷺ- عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بُني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم الناس كما قال ابن كثير -رحمه الله-، ولما نزَلَ -ﷺ- المدينة كان أول ما قام به تخصيص أرض وبنى مسجِدَه -ﷺ-.

قال عليه الصلاة والسلام: «مَن بَنى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنى اللهُ له في الجَنَّةِ مِثْلَهُ» متفقٌ عليه، وقد أمر عليه الصلاة والسلام ببنائها في أماكنِ التجمُّعاتِ للناسِ والأحياء، فعَنْ عائشةَ -رضي الله عنها- قالَتْ: «أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- بِبِناءِ المَساجِدِ فِي الدُّورِ وأنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ». وإن كان بِنَاؤُها قُربةٌ وعبادةٌ، والقائمُ بذلك موعودٌ بالثواب العظيم في جنات النعيم؛ فإن من تمام العِمارة الحِسّيّة أيضاً؛ أن المساجد بجميع مرافقها، وكل ما يوضع فيها وقفاً لله لمنفعة المسلمين، ويجب المحافظة على جميع منافعه واستخدامها -فقط- فيما جعلت من أجله؛ وتطهيرُها، وتطيبيها، فهذا من سَنَنُ المرسلين، وعبادِ الله المُخلَصين.

وإذا كانت عمارة المسجد حِسيًّا مُرغَّبٌ فيها، فإن العِمارةَ المعنوية هي لأهل الإيمان مُعيَّنة، وللمُتَّجِرِ طالبِ الرضوان مُعِيْنَة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} فشَهِدَ اللهُ -جل وعلا- لهم بالإيمان والهداية.

وأَثْنَى اللهُ – سبحانه تعالى- على من عَمَرَ المساجد بالطاعةِ، ووصفهم بأنهم رجالٌ، عصَمَهم الله من فتنةِ الدنيا، فقال عزَّ شأنُه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أحبُّ البلاد إلى الله مساجِدُها» رواه مسلم، وذلك لأنها بيوت خُصَّت بالذكر، وبُقَعٌ أُسِّسَت للتقوى والعمل الصالح -قاله القاضي عياض-. وذلك لِـمَا خُصَّت به من العبادات والأذكار، واجتماعِ المؤمنين، وظُهور شعائِر الدين.

الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة رباط في سبيل الله قال النبي -ﷺ-: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال -ﷺ-: «إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» رواه مسلم. وقال -ﷺ-: مَنْ راح إلى مسجدِ الجماعة فخُطْوَةٌ تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعاً» رواه أحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه.

ينبغي أن يكون الغرض من بناء المساجد وعمارتها وجه الله تعالى ورضوانه، فهي بيوت الله ومأوى ملائكته ومهابط رحمته ودور عبادته، وملتقى عباده المؤمنين، لا تبنى لأجل المباهاة والزينة، ولا تتخذ آثاراً ومتاحف، ومظاهر للمفاخرة، وإنما تبنى لإقام الصلاة وذكر الله فيها، والجديرٌ بها هم أهل الإيمان الذين يعظّمون حرمات الله، ويخلصون له في القول والعمل، فيتحقق لهم الأجر والثواب والبيت في الجنة.

هذا والله تعالى هو الأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه