قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.
قال ابن عاشور -رحمه الله-: الوقوع في هذه الحالة ناشئ من تزيين الشيطان له سوء عمله، فالمزين للأعمال السيئة هو الشيطان، قال تعالى: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [النمل: 24]، فرأوا أعمالهم السيئة حسنة، فعكفوا عليها ولم يقبلوا فيه نصيحة ناصح، ولا رسالة مرسل، قوله: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾؛ أي: فلا تفعل ذلك، فإنهم أوقعوا أنفسهم في تلك الحالة بتزيين الشيطان لهم ورؤيتهم ذلك حسنًا، وهو من فعل أنفسهم، فلماذا تتحسَّر عليهم، وإسناد الإضلال والهداية إلى الله بواسطة أنه خالق أسباب الضلال والاهتداء، وذلك من تصرُّفه تعالى بالخلق، وهو سِرُّ من الحكمة عظيم لا يُدرك غوره وله أصول وضوابط.
وقال العلامة محمد ابن عثيمين -رحمه الله- معلقاً على الآية الكريمة: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾، من المزين؟
ذكر الله عز وجل أن المزين الشيطان، وسوء العمل يشمل كل الأعمال، سواء كان الشرك أو العدوان على الغير أو سوء السلوك وفساد الأخلاق أو غير ذلك، المهم أنه شامل لكل الأعمال، ﴿ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾؛ أي: رَأَى سُوءَ عَمَلِه حَسَنًا، وهذا أشَدُّ ما يكون أن يكونَ الإنسان على خَطَأ، ويرى أنَّه على صَوَاب؛ لأَنَّ مثل هذا لا يَكَادُ يُقْلِعُ عن غَيِّه حَيْثُ إنَّه يَعْتَبِرُه صَوَابًا، ومن ذلك مثلًا: أصحاب الحيل المخادعون، فالمنافق مثلًا زين له سوء عمله؛ لأنه يرى أنه ذكي، وهذا مِن سُوءِ العمل، ومن أمثلة ذلك: الـمُتَحَايلون على الرِّبَا بأنواعِ الحِيَل، هؤلاء أيْضًا زُيِّنَ لهم سُوءُ أعمالِهم؛ ولهذا لا تكَاد تجِدُهم يقلِعُون على ما هم عليه؛ لأنَّه قد زُيِّنَ ذلك في نفوسِهم فلا يُقْلِعُون عنه، المهم أنَّ هذا له أَمْثِلَة كَثِيرة، وهذا مِن سُوءِ العمل.
والآية الكريمة، جمعت بين التوحيد والعبادة والأخلاق والمعاملات، ومنها:
أولًا: خطورة اعتقاد الإنسان عملًا سيئًا ويراه حسنًا؛ لما لذلك من تبعات سلبية على الفرد والمجتمع- كما هو حال أي عمل سيئ – فربما يتَّسِع مداه ودائرة قبوله لدى الآخرين فيصبح أمرًا طبعيًّا، وتُبنى عليه تصوُّرات وقرارات مصيرية قد لا تُرى نتائجها العكسية في الوقت الحاضر، فالواجب العناية التامة بأعمالنا وأقوالنا وبخاصة المصيرية منها، والعناية بمراجعتها من أهل الاختصاص للتأكد من سلامتها وموافقتها لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وواقع الحال ومتطلبات العصر.
ثانيًا: توجد علاقة قوية ورابط وثيق بين رؤية الإنسان لعمله السيئ حسنًا، وبين تزيين الشيطان له؛ لأن الشيطان حريص أشد الحرص على إغواء بني آدم بشتى الوسائل الممكنة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 48]، وقال سبحانه: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24].
ثالثًا: من الخيبة والخسران والحرمان وقلة التوفيق أن يسلك الإنسان في حياته مسلكًا يظن كل الظن أنه مستقيم، وهو بخلاف ذلك بل في وجهة قد تَهوي به إلى الشقاء والضياع والعياذ بالله، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104].
رابعًا: أشد الناس وقوعًا في رؤية أعمالهم السيئة حسنة أكثرهم بعدًا عن الله تعالى، ومن أعظم الانحراف وأشده الوقوع في الكفر والعياذ بالله، ثم ارتكاب المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، وغير ذلك من الانحرافات، وكلما كان الإنسان من الله أبعد كانت رؤيته لعمله السيئ حسنًا، قال تعالى: ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الرعد: 33]، وقال سبحانه: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، قال العلامة السعدي -رحمه الله-: “فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم، ويزينها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقًّا، وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفةً راسخةً ملازمة لهم؛ فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح”.
خامسًا: عندما لا يشعر الإنسان بخطئه، أو تقصيره، ولا يرى فيه بأسًا، بل قد يراه حسنًا، فذلك انحراف في التصور والسلوك، وقد يكون بسبب تسلُّط الشيطان عليه، أو تسلط نفسه الأمَّارة بالسوء، فيزهو حينها بنفسه كِبْرًا وغُرورًا، وقد يظن في نفسه أنه هو الفاهم الذكي ويحتقر غيره في سوء فهمهم وقلة علمهم، ولم يعلم المسكين أن الله تعالى هو الذي علمه ورزقه الفهم والدراية، وفي أية لحظة فإن الله تعالى قادر على أن يسلبه ذلك؛ ولذلك جاءت الشريعة السمحة بتوجيهات عدة بتحريم الكبر واحتقار الآخرين، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، قال الإمام ابن باز -رحمه الله-: “ينبغي للمؤمن أن يحذر أن يعجب بعمله، أو نفسه، أو أن يتكبَّر على إخوانه، يجب الحذر من ذلك، فإن الإنسان محلُّ الخطر، فينبغي له أن يُحاسب نفسه، وأن يُجاهدها حتى لا يقع في قلبه التكبُّر على إخوانه والعجب بنفسه فيهلك”.
سادسًا: يحتاج المؤمن بصفة دائمة إلى محاسبة نفسه ومراجعتها للتأكد من مدى سلامة سيره على الصراط المستقيم، وبخاصة في الأمور المهمة التي تحتاج إلى تأنٍّ وحكمةٍ، وتأتي في مقدمتها شرائع الدين وأحكامه، ومن توجيهات الشريعة السمحة في محاسبة النفس، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18]، قال العلامة السعدي -رحمه الله-: “هذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه”، وقال صلى الله عليه وسلم: «الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها، وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ».
سابعًا: يقع على عاتق الأسرة دور مهم في صياغة الفكر السليم والسلوكيات الإيجابية وتربية النشء عليها ليكونوا معاوِلَ بناء في المجتمع، وكلما كانت تربية النشء في داخل الأسرة تربية إسلامية أصيلة متكاملة، كان المجتمع أكثر استقرارًا ونضوجًا ورقيًّا، وتختفي معه الكثير من الظواهر السلبية، وإن ظهر بعضها في وقت معين يسهل علاجها والقضاء عليها،
ثامنًا: من أقوى ما يُعين الإنسان على السلامة والابتعاد عن الزيغ والضلال والانحراف في الفكر والسلوك، ورؤية الأعمال السيئة حسنة؛ الإكثار من الدعاء، والأذكار.
تاسعًا: من الأمور المهمة التي ينبغي الإشارة إليها، ويجب أن تكون حاضرة في عقل ووجدان كل مسلم لتجنب المصادمات والصراعات بين الناس وما ينتج عنها من فُرقة وتشتُّت في منظومة العلاقات الاجتماعية؛ القناعة التامة بوجود اختلافات في وجهات النظر بين الناس حول موضوعات وقضايا معينة، فلا نسقط الآية على كل عمل يخالف رأينا، ينبغي أن تكون هناك مساحة من اتساع الفكر وقبول واحترام وجهات النظر المخالفة، ما دام في إطار الأصول والقواعد الشرعية، ولها مسوغ شرعي معتبر، حفاظًا على سلامة المجتمع من التشتُّت والخصام، ولكي لا تكون هناك فرصة مواتية لشياطين الإنس والجن لبذر بذور التناحُر والقطيعة بين أبناء المجتمع الواحد.
عاشرًا: الخطأ والتقصير وسوء الفهم من لوازم الطبيعة البشرية، وهي بحاجة دائمة إلى التذكير والتناصح بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن تيقَّن حقَّ اليقين رؤية تقصير معين عند أخيه المسلم، فالواجب نصحه وتذكيره، قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»؛ (صحيح مسلم، رقم: 55)، وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ، المؤمنُ أخو المؤمنِ يَكُفُّ عليهِ ضَيْعَتَه ويحوطُه مِن ورائِه»؛ قال الإمام ابن باز -رحمه الله-: “أنت مرآة لأخيك وهو مرآة لك، إذا رأيت شيئًا يشينه نبهته برفق وحكمة وإظهار المودة والنصح حتى يزيل ذلك الشيء الذي يشينه وينقصه، وهو كذلك إذا رأى فيك ما يشينك نبهك بلطف ورفق ومحبة وعدم عنف حتى تزيل ما يشينك وما يقدح فيك من أخلاق وأعمال”.
الحادي عشر: هناك ملمح مهم؛ فعندما يُوجه للإنسان نصيحة لأي أمر كان، ينبغي احترام القائل وقبول النصيحة، فقد تكون النصيحة في محلها، والمبادرة بمراجعة النفس، فلآخرون لهم القدرة على رؤية وملاحظة ما في غيرهم بما لا يراه الشخص في نفسه، فلا تواجه بعنف أو اشمئزاز أو تعالٍ، والواجب أيضًا القبول الحسن والرد الحسن، ولعل الآية الكريمة: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34] تؤكد هذا المعنى، فإذا كان الذي أخطأ في حقك الأولى تقابله بالتي هي أحسن، فكيف بمن أسدى إليك نصيحة! فيكون القبول أعظم والرد أفضل، قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- : “يعني إذا أساء إليك إنسان فلا تقابله بإساءة، ولا تقابله بحسنة أيضًا، قابله بما هو أحسن”.
الثاني عشر: ينبغي على الإنسان التأني والتثبت قبل الحكم على أعمال الآخرين، فلا يصدر حكمًا على شخص لمجرد رؤية صورة واحدة من شخصيته، فالحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، فالعاقل الموفق يتجنب سرعة الانتقاد لأعمال الآخرين، فيحفظ لسانه، ويترك الأمر لأهل العلم كل بحسب اختصاصه للتصدي لمعالجة القضايا والظواهر السلبية بالطرق المناسبة من غير إفراط أو تفريط.
الثالث عشر: قد يغلب على ظن البعض أحيانًا تبني قول لموضوع محدد، أو قضية معينة استنادًا على فهم غير مكتمل، ثم يظهر خلاف ذلك، ورجوحه بدليل أقوى، فالتراجعُ إلى القول الأقوى دليلًا خيرٌ من التمادي في الخطأ، وهذ من التوفيق والحكمة وكمال العقل، فالعلم بحر لا ساحل له، قال تعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، قال الطبري رحمه الله: “وفوق كل عالم من هو أعلم منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله”.
والله أسأل بمنه وكرمه أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، والله تعالى هو الأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.