الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، ومن عمل صالحا هداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر باتخاذ الأسباب، وأجزل للمتوكل عليه الثواب.
دعا الله -سبحانه- عباده إلى التوكل عليه وحده، وجعل ذلك دليل الإيمان، قال -تعالى-: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9]، وقال: {وَعَلى الله فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتمْ مّؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
<<الْوَكِيلُ>> من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الكافي الكفيل، وله معنى عام وخاص:
أما المعنى العام: فيدل عليه قوله -تعالى-: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، وقوله -تعالى-: {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:12]، أي: المتكفل بجميع أرزاق المخلوقات وأقواتها، القائم بتدبير شؤون الكائنات وتصريف أمورها.
والمعنى الخاص: يدل عليه قوله -تعالى-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب:48]، وقوله: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، أي: نعم الكافي لمن التجأ إليه، والحافظ لمن اعتصم به، و[هذا] خاص بعباده المؤمنين به المتوكلين عليه.
والتوكل على الله وحده هو الأصل لجميع مقامات الدين، ومنزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
وحقيقة التوكل هو عمل القلب وعبوديته اعتماداً على الله، وثقةً به، والتجاءً إليه، مع فعل الأسباب المشروعة. وقد جمع الله بين هذين الأصلين في نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وفي الحديث قال : «احرص على ما ينفعك واستعن بالله».
والتوكل مصاحب للمؤمن الصادق في أموره كلها، الدينية والدنيوية، وفي الدعاء المتقدم عند الخروج من المنزل: “بسم الله توكلت على الله”، دليل بيّن على عظم افتقار العبد إلى كفاية الله وهدايته ووقايته، وأنه لا غنى له عن ربه طرفة عين.
ولا يستقيم التوكل بدون الأخذ بالأسبــاب؛ يقول الامام ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: “فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل؛ ولكن من تمام التوكل:
1) عدم الركون إلى الأسباب، 2) وقطع علاقة القلب بها.. فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها ”
إن كل ما يؤدي إلى ترك العمل أو يكون مظنة للاتكال والتواكل فليس من التوكُّل في شيء.
والتفويض أعمُّ من التوكٌّلِ.. يقول صاحب المنازل: “التفويض ألطف إشارة وأوسع معنى من التوكل؛ فإن التوكل بعد وقوع السبب والتفويض قبل وقوعه وبعده وهو عين الاستسلام والتوكل شعبة منه “.ويقول يقول الامام ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين ” يعني أن المفوِّض يتبرأ من الحول والقوة ويفوض الأمر إلى صاحبه من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه، بخلاف التوكل فإن الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل .”
ومن آثار الإيمان باسم الله (الوكيل) وتحقيق التوكُّل:
أولاً: استسلام العبد لخالقه، والتفويض له في كلّ الأمور؛ إدراكاً منه بأن جميع الأمور من خير وشرّ ونفع وضرّ إنما هي بقضائه وقدره، يقول الإمام ابن العربي -رحمه الله-: “إذا علمت أن وكيلك غنيّ، وفيّ، قادر، ملِك؛ فأعرض عن دنياك، واقبل على عبادة من يتولاك”.
ثانياً: حسن الظنّ بالله -تعالى-، ومرجع ذلك هو تصوّر عظم شأن من أوكلت إليه الأمور -سبحانه وتعالى-، فهو المتّصف بتمام القوّة والقدرة، وتمام العلم والحكمة؛ وصدق اعتماد القلب على الله في استجلاب المصالح ودفع المضـــار من أمور الدنيــا والآخرة، والثقة فيما عند الله واليأس مما في أيدي الناس، فلا يعطي ولا يمنع ولا ينفع ولا يضر سوى الله جلَّ وعلا.
ثالثاً: أن لا يستكثر العبد سؤال الله -تعالى- في كلّ حين، فإن الوكيل غني يحب أن يسأله السائلون، قال -تعالى-: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء:32]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يسألني فأعطيه؟» متفق عليه.
رابعاً: تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة، لأن التوكّل على الخالق من أجلّ العبادات، وقوامها الاعتماد القلبي عليه، وتفويض الأمور إليه، والأمر بها مطلوب ومرغوب: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}، والالتفات إلى غيره محظور: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء:2].
خامساً: الدعـــاء باسم الله الوكيــل، فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ ” فكأن ذلك ثَقُل على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم “قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا” [رواه الترمذي وصححه الألباني]. وهو من الأذكــار المهجورة التي ينبغي على كل من يؤمن باليــوم الآخر ويخشى أهواله أن يُكثِر من ترديده؛ ومما ورد من الدعاء بالوصف.. قول الرسول -صلى الله عليه وسلم:- “دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت “[صحيح الجامع].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا، أن ترزقنا التوكل عليك حق التوكل؛ أنت حسبُنا ونعم الوكيل، إليك الـمُشتكى، وأنت الـمُستعان وعليك التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، أنت وليُّنا في الدنيا والآخرة، أحينا مسلمين، توفّنا مُسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، وصلّ اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه.