«طالب الرِّئَاسَة»

  • — الثلاثاء ديسمبر 10, 2024

كان النبي صلوات ربي وسلامه عليه يعلم الناس وينصحهم ويرشدهم على جميع أحواله؛ في مسجده، في خطبة، في مواعظه لأصحابه -رضوان الله عليهم-، ومن هذا التحذير من طلب الرئاسة أو التطلع إليها فيوكل المرء إليها، فقد جاء فيما رواه الإمام البخاري -رحمه الله- عن عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيٌّ – صلى الله عليه و سلم -: «يَا عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ سَمُرَةَ لا تَسأَلِ الإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِن أُوتِيتَهَا عَن مَسأَلَةٍ، وُكِلتَ إِلَيهَا، وَإِن أُوتِيتَهَا مِن غَيرِ مَسأَلَةٍ, أُعِنتَ عَلَيهَا…» الحديث.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وطالب الرِّئَاسَةِ -ولو بالباطل- ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلا وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقا، والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه وتغضبه كلمة الباطل له وعليه لأن الله تعالى يحب الحق والصدق والعدل ويبغض الكذب والظلم.

فإذا قيل : الحق والصدق والعدل الذي يحبه الله أحبه وإن كان فيه مخالفة هواه . لأن هواه قد صار تبعا لما جاء به الرسول . وإذا قيل : الظلم والكذب فالله يبغضه والمؤمن يبغضه ولو وافق هواه.”

وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- “والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله هو الفرق بين تعظيم أمر الله والنصح له، وتعظيم النفس والسعي في حظها، فإن الناصح لله المعظم له المحب له يحب أن يطاع ربه فلا يعصى، وأن تكون كلمته هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه، فقد ناصح الله في عبوديته، وناصح خلقه في الدعوة إلى الله، فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً، يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين”.

ثم قال -رحمه الله-: “وهذا بخلاف طلب الرياسة، فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعب القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم، مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة، والحمية للنفس دون حق الله وتعظيم من حقَره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمى عن هذا، فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حشروا في صور الذر يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم، إهانة لهم وتحقيراً وتصغيراً، كما صغروا أمر الله وحقروا عباده” [الروح، لابن القيم 340-241].

قال عبيد الله بن الحسن العنبري -قاضي البصرة في زمن الخليفة المهدي- حين رجع عن أقوال له خالفت السنة، وبعد أن كان مصدراً في جماعته، وأصبح تلميذاً، قيل له في ذلك “كنت رأساً وعلماً ووو”، فقال: «لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل» [تهذيب التهذيب 7/7].

قال شداد بن أوس – رضي الله عنه -: “يا بقايا العرب: إن أخوف ما أخاف عليكم: الرياء، والشهوة الخفية”. وقيل لأبي داود السجستاني محدث البصرة، وإمام أهل الحديث في زمانه: «ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرياسة»؛ فقال ابن تيمية معقباً: «فهي خفية، تخفي عن الناس، وكثيراً ما تخفي على صاحبها».

إن تطلع المرء للولايات العامة من الأمور الخطيرة الشأن؛ لما فيها من المسؤولية عن إقامة الحق والعدل بين الناس، ويترتب على ذلك تحمل تبعات ذلك في الدنيا والآخرة، وهو ما يعرضه للخسران إن لم يقم بواجباتها على وجهها بالعدل؛ قال الإمام ابن باز -رحمه الله-: “فإذا أُعطيها عن غير مسألةٍ وألزمها؛ فإنَّ الله يُعينه إذا صدق ونصح، أمَّا أن يسألها للعلوِّ في الأرض، أو لظلم الناس، أو لجاهٍ، أو ما أشبه ذلك؛ فهذا خطره عظيم، كما قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فالإمارات خطرها عظيم، فإذا بُلِيَ بها الإنسانُ وصبر واستعان بالله عليها أُجِرَ، وأمَّا السؤال فلا ينبغي له أن يسألها”.

اللهمّ أحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ، وصلّ اللهمّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.