استخدم الناس مصطلح “عصر المعلومات” كثيرا لدرجة أنه من المفترض أننا جميعاً اصبحنا نعرف ما يعنيه. وفي معظم الحالات، يعتقد الناس أنه يشير إلى ازدهار الإنترنت والمعلومات الرقمية التي تمدنا بها. غير أن المصطلح يشير أيضا إلى حقيقة أن الناس أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على أجهزة الحاسب والشبكات التي توفر معلومات ‘افتراضية’ عن أي شيء. وبما أن المعرفة هي الحرية-كما يقال-، فهذا يعني ضمنا أن عصر المعلومات هو عصر التحرر.
فهل هذا هو الحال فعلا؟
الجواب: لا. لعدة أسباب.
ففي المقام الأول، المعلومات لا تعبر بالضرورة عن الحرية. بل على العكس من ذلك، تضخم المعلومات بات يشكل مشكلة خطيرة. تخزين المعلومات الرقمية في حد ذاته أصبح قطاعاً قائماً بذاته. ماذا تفعل مع عشرات الملايين من التقارير والمقالات والإحصاءات، والرسومات، والصور، وغيرها و التي تنشر يومياً؟ وإذا كنت لا تعرف ما تحتاجه منها، فإن تراكم هذه “الاشياء” عبء لا يستهان به.
ثانيا، عصر المعلومات الذي أثار إعجاب الكثيرين، يقوم اساسا على الخلط بين المعلومات والمعرفة. فالشيء الموجود هناك على شبكة “الإنترنت”، في العالم الافتراضي وفي المليارات من مواقع “الإنترنت” و”الإنفوغرافات” هي “بيانات”، وليست المعرفة. والفرق بين الاثنين هو أنه بينما توفر حشد كبير من المعلومات الكمية والإحصائية والعددية عن الأشياء، فإن المعرفة تعني التوليف والإدراك والفهم، وتستند المعرفة على العقل والتجربة [الخبرة]. و”البيانات” لا يمكن أن تكون بديلا عن المعرفة؛ فالبيانات في حد ذاتها هي عبارة عن مجموعة من المعلومات بلا روح، مجرد أعداد وأرقام. فإذا جمعنا أكبر مجموعة من البيانات بعد نقرات قليلة، فلا يعني ذلك أننا اكتسبنا المعرفة.
تستند المعرفة إلى فهم معرفي وعميق لمعنى الأشياء. على عكس البيانات والمعلومات، فهي مجموعة من الحقائق والأرقام الباردة. المعرفة شيء وجودي وشخصي في آن واحد. هدفها هو تنويرنا وجعلنا في حال أفضل.
“المعنى” هو المفتاح هنا، ويقودنا إلى عتبة الحكمة.
اليونانيون القدماء كانوا يدركون جيدا الدور المحوري للمعنى والهدف في سعينا لتحقيق المعرفة.
أفلاطون وضع المعنى الحقيقي للأشياء في عالم من الأفكار أو الأشكال، التي تتجاوز القيود الزائلة للعالم المادي وتوفر أسس أكثر صلابة لمعرفة سليمة.
أرسطو عرّف الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء، ولماذا تكون على ما هي عليه. لكن أرسطو لا يمكنه أن يفسر معنى الأشياء ببساطة عن طريق الإشارة الى الأشياء نفسها من خلال الكلام، ولكنه بدلا من ذلك، حث طلابه على الذهاب إلى ما هو أبعد من السؤال “ماذا؟“، الذي تجيب عليه العلوم الأساسية، والإسهاب في الحديث عن “لماذا؟“، وهو الموضوع المناسب للفلسفة كحكمة.
حتى العصر الحديث، كان هناك اعتقاد بأن معنى الأشياء يكمن في شيء أعلى من الأشياء ذاتها. تقليص المعنى للمكونات المادية للأشياء كان يعتبر شيئاً سخيفاً، فهو مثل تحديد معنى الكتاب من خلال عدد صفحاته، ونوعية الورق والحبر والغلاف. وبدلا من ذلك، عُرف المعنى بأنه الشيء الذي يعطى الأشياء جوهرها الحقيقي، والغرض منها ووظيفتها.
ومن هذا المنطلق، فالعقل البشري يكتشف المعنى، وعندما يتجذر يحقق الحكمة، فالمعنى الذي ينقله الكتاب يتجاوز خصائصه الفيزيائية.
معظم اللغات لديها كلمة “حكمة”، ومن المثير للاهتمام، معناها الأساسي الذي يعني “الكبح ” و “المنع”. الكبح للجهل والظلم والحماقة، والمنع من الأخطاء والرذائل الأخلاقية هي من الحكمة.
فالحكمة تعني المعرفة والعدل والرحمة والتحمل والاستقامة. والمعرفة تؤدي إلى الحكمة عندما تدفعنا إلى الجمع بين الفهم والفضيلة أو المعرفة (العلم) والممارسة. كما قال العالم المسلم ابن قتيبة في القرن التاسع، “لا يسمى الرجل حكيماً ما لم يجمع بين العلم والعمل.”
هذا هو السبب في أن الفلسفة ليست مجرد جمباز عقلي. وكما قال فيثاغورس في مقولته الشهيرة: الحكمة ملك لله؛ وأما نحن فنحب الحكمة فقط، والحكمة تعني معرفة حقائق الأمور والتصرف وفقا لذلك، والفلسفة المجردة من الأخلاق ولا يتجاوز دورها مجرد تفسير العلم، فهي ببساطة فلسفة سيئة.
التقاليد الفكرية الإسلامية تصور الحكمة كعنصر يوحد جميع أنواع العلوم والمعرفة. ولهذا السبب فمراكز التعلم القديمة كانت تسمى “بيت الحكمة” وهو المكان الذي تجرى فيه الدراسات الفلسفية والعلمية والتقنية بطريقة متكاملة.
إن السبب الذي افقدنا الحكمة في هذا العصر الرقمي أننا فقدنا التبصر في سبب وجودنا. لقد خلق مفهوم الحداثة بعد واحد للواقع، وقلصت معنى الأشياء إلى الكفاءات المعرفية للموضوع. لقد وضعنا هذا في الذاتية الراديكالية، وما بعد الحداثة تتمسك بعلم الوجود (الأنطولوجيا) المنافية للواقع، حيث ادعت أنه لا وجود للجوهر، ولا يوجد أساس له، ولا مادة باستثناء ما يمكننا أن نصنعه في هذا العالم.
هذا الادعاء المتوحش كان حاضرا في مواجه هيمنة الحداثة الكلاسيكية والعقلانية، ولكنه فقد الكثير من اندفاعه في الآونة الأخيرة.
ربما حان الوقت لإعادة النظر في معنى التفكير الفلسفي الجاد، واستعادة العلاقة الثابتة للحكمة بالبشرية في القرن الحادي والعشرين. وإذا كان هناك ثمة معنى لعصر المعلومات الذي نعيش فيه، فلن يكون من خلال المزيد من البيانات والمعلومات ولكن من خلال التفكير العميق في معنى الأشياء.
(ابراهيم كلين، جامعة جورج واشنطن)