«انعكاسات “ذكاء المدن الجماعي” على إدارة المدن وتطورها الحضري»

  • — الثلاثاء ديسمبر 24, 2024

أصبحنا اليوم على مشارف الجيل التالي من التطور الحضري للمدن؛ حيث أصبحت إدارة المدن تتخطى في مهمتها توفير البنى التحتية المترابطة والأشياء الأذكى إلى إشراك السكان (المواطنين، والمقيمين والزائرين)، وقطاع الأعمال مع الأجهزة الحكومية في نظام ذكاء جماعي مترابط، للحصول على رؤى أفضل؛ وهو ما يمكن تسميته “ذكاء المدن الجماعي” الذي يعزز على نحو حقيقي وفعال من تجربة المستفيد/المستخدم/المستهلك، ومن ثَمَّ يعزز من عملية صنع القرار على نحو إيجابي، ومن ثَمَّ تقديم خدمات ذات جودة أفضل، ونوعية حياة أفضل في المدن.

ومع أن مجالات التركيز في المدن ستبقى هي ذاتها – وهي إنشاء بيئات صالحة للعيش تكفل للناس والأعمال حياة مزدهرة – إلا أن بعض المدن تركز على البني التحتية وربطها دون الاهتمام بإشراك السكان وقطاع الأعمال مع الأجهزة الحكومية -ولو بوتيرة بطيئة- مع أن الطرق المتبعة لتحقيق هذا الهدف في تطور متواصل، وأصبحت تضع البيانات في أيدي المستخدمين النهائيين لتحفيز عملية صنع القرار على نحو أفضل، حيث يستغلون الذكاء الجماعي في إيجاد حلول لبعض أصعب المشكلات الحضرية، وتتبنى منهجًا يساعد في استخدامها لإعادة تصور عمليات المدينة الأساسية.

هذه التحولات تؤدي إلى تعديل الأدوار التقليدية لدور الحكومة والأعمال والسكان وبالتالي التحول في تنمية المدن بشكل أفضل، من خلال تطوير مفهوم دور الأجهزة الحكومية لتصبح عوامل تمكين للحلول، ويصبح قطاع الأعمال أكثر تشاركية، وزيادة أعداد كوادر المبدعين البشرية المشاركين من السكان، فتصبح المدنية أكثر ارتباطًا، وتواصلاً وتعاونًا وذكاء.

فما الذكاء الجماعي للمدينة؟

لقد بدأ العالم يشهد تباشير الجيل القادم من التطور العمراني؛ بدأت بعض المدن الأكثر تقدمًا تستفيد من حكمة سكانها وزوارها؛ ومن ثَمَّ لا يقتصر تطور المدن على أجهزة الحكومة فقط، بل تمتد إلى عموم السكان؛ المواطنين، والمقيمين والزائرين، وقطاع الأعمال التجارية في نظام بيئي مرتبط ومتعاون وذكي يقوم على بنية تحتية مادية تستند إلى بوتقة موحدة ومتكاملة من البيانات والمعلومات الدقيقة القائمة على تعزيز تجربة المستفيد/المستخدم من خلال الخدمات الرقمية، والتصاميم المرتكزة على الإنسان.

البنية التحتية المترابطة

هناك تجارب لمدن حدثت بنيتها التحتية، وجعلتها مترابطة، باستخدام إدارة الأصول الحضرية على نحو أفضل مثل؛ النقل العام، والطرق والخدمات البلدية، والإسكان، والنظافة، وأنظمة مياه الصرف، والصحة العام وغيرها.

وتشتمل “البنية التحتية المترابطة” على الأصول المادية التي تولد تيارات من البيانات ذات القيمة، من إدارة حركة المرور إلى عدادات مواقف السيارات وإضاءة الطرق الشوارع، حتى صناديق القمامة ومرادم النفايات… وغيرها من الأصول التي تساعد المدينة في تحسين أداء بنيتها التحتية المادية، وتشكل جزءًا أساسيًا من العناصر اللازمة لبناء ما يسمى بمدن الغد، التي تؤدي إلى جعل عملية صنع القرار في المدينة على نحو أفضل وأكثر ذكاء وواقعية؛ توفر نوعية حياة أفضل لعموم السكان، والقدرة التنافسية الاقتصادية لجذب الاستثمار والمواهب المحلية، مع تركيز بيئي واعي قائم على الاستدامة. هذه أهداف يمكن أن توفر الأساس الذي يمكن أن تستند إليه مبادرة الذكاء الجماعي للمدن في عدة مجالات حضرية، وهي: الاقتصاد، والتنقل، والأمن، والتعليم، والمعيشة، والبيئة.

انعكاسات الذكاء الجماعي على الأجهزة الحكومية وقطاع الأعمال والسكان؟

أولاً: على أجهزة الحكومة:

  1. تتطور المدينة كبوتقة موحدة، تجمع بيانات ومعلومات تساعد إدارة المدينة في حل المشكلات التي تواجهها؛ أن تعزز إيجاد بيئات يمكنها مساعدة أصحاب الأعمال التجارية والمشاريع الاجتماعية والقطاع الأكاديمي، والمجتمع غير الربحي والأفراد في أن يزدهروا، وتوظيف نظام بيئي من الشركاء يحمل مع الأجهزة الحكومية المسؤولية عن النتائج المستهدفة، وجذب الاستثمارات الجديدة، وفتح مجال تقديم الخدمات للاختيار، والمساهمة في إدارة الحشود والمبادرات الجماعية والتطوعية، وغيرها.
  2. بناء هيكل للحوكمة محدد بوضوح، يعمل على بناء نظام بيئي موحد ومتنوع من أصحاب المصلحة، ويمكن قادة المدن، والأجهزة الحكومية الإقليمية، ومناطق النقل والدعم اللوجستي، والشركاء من قطاع الأعمال غير الربحية والوكالات والهيئات المركزية المشاركة في صياغة وتنفيذ رؤية المدينة، كما ينبغي أن يكون أصحاب المصلحة قادرين على التعبير عن مسؤولياتهم، وضمان تدفق المعلومات المناسبة إلى صناع القرار مع إيجاد آليات لدفع القرارات في الوقت المناسب، وأيضاً إرساء دعائم مبدأ المساءلة للجميع.
  3. تطوير تدفقات تمويل مبتكرة ومستدامة، حيث يشكل التمويل عقبة رئيسة أمام كثير من المبادرات؛ تعاني كثيراً من المشاريع المبتكرة في انطلاقتها بسبب نقص التمويل، ومع ذلك، يمكن مواجهة هذا التحدي من خلال أساليب مبتكرة لتمويل مشاريع تخرج عن دائرة النماذج التقليدية لتمويل البنية التحتية المترابطة عبر الذكاء الجماعي لاختيار نموذج يعتمد على كيفية إعادة توزيع الأخطار والحوافز بين الكيانات العامة والخاصة.

ثانياً: الانعكاسات على قطاع الأعمال الخاص:

يوفر الذكاء الجماعي توافقاً مع أهداف المدينة وفرصة للشركاء وأصحاب المصلحة، وعادة ما تلجأ إدارات المدن التي تعاني نقص السيولة أو ضائقة مالية إلى استكشاف فرص المشاركة مع القطاع الخاص، ولذلك، يتعين على المؤسسات الحكومية أن تكون سباقة في إيجاد الفرص ذات المنفعة المتبادلة مع شركاء المدينة.

ثالثاً: الانعكاسات على السكان:

  • مشاركة السكان في تنمية المدينة

في حين أن عموم السكان هم المستفيدون النهائيون من أي مبادرة لتنمية المدينة، إلا أنه يمكن أيضًا إشراكهم في المساعدة على تطوير حلول تتمحور حول المستفيد/المستخدم، ويمكن للسكان أن يكونوا مصدرًا مهمًا لتوليد البيانات، وتطوير الحلول، واختبارها لكل من القطاع العام والخاص؛ فبناء السياسات العامة المشتركة والعمل جنبًا إلى جنب مع مصمميها هو أحد المجالات التي يمكن للسكان العمل فيها باعتبارهم الأكثر تأثراً بتلك السياسات؛ عن طريق المشاركة في تصميم حل مع الأشخاص الذين تسعى الأجهزة إلى دعمهم، وتسمح هذه الوسائل المشتركة في مساعدة مصممي السياسات في بناء نماذج أولية أفضل واختبارها في سيناريوهات واقعية، مما يزيد من فعاليتها عند التطبيق.

  • مشاركة السكان في توليد البيانات

لا تقتصر إبداعات ذكاء المدن الجماعي على مجال بناء السياسات فقط، يمكن للسكان المشاركة في توليد البيانات بحيث يسمح للمواطنين بتصوير الحوادث والمشكلات وإبلاغ إدارة المدينة عنها؛ والبيانات التي يتم جمعها لا يمكنها فقط أن تساعد على اتخاذ القرار بل تسمح أيضاً بتخصيص أفضل الخبرات في تصميم الخدمات المقدمة لعموم السكان.

  • مستهلكين مواطنين مخولين

يمكن للسكان المزودين بالبيانات الصحيحة والأدوات أن يصبحوا أكثر نشاطًا واتصالًا وتعاونًا وتشاركاً في حركة المدينة، وتنعكس بالفعل في مجال الاستدامة، عندما تبذل الجهات المسؤولة عن الطاقة جهودها لتبسيط فواتير استهلاك الكهرباء، المياه، الوقود باستخدام مزيج من بيانات المرافق حول نمط استهلاك المستخدم والبيانات المزودة بمصادر خارجية من مستخدمي الطاقة أنفسهم، ثم يقوم باختبار تجربة المستخدمين/المستهلكين من خلال السماح لهم بإكمال التحديات التي تواجههم، والمشاركة في مجموعات من السكان لكسب النقاط من إرشادات مرتبطة بتخفيض الاستهلاك؛ وبذلك فإنها تساعد المستهلكين على اتخاذ قرارات أفضل لأنفسهم، مع المساهمة في أهداف السياسات العامة للترشيد التي تخدم الصالح العام.

فكيف السبيل إلى تفعيل ذكاء المدن الجماعي؟

هناك بعض الأدوار والوسائل التي يمكن للمدن من خلالها تحقيق ذلك، كما يلي:

أولاً: دور الحكومي:

  • البدء بنماذج أعمال جذابة؛ فكرة يمكن لسكان المدينة أن يفهموها والتعبير عنها بسهولة.
  • توظيف الجهود المتاحة؛ بدلاً من مشروع واحد ضخم، إنشاء مجموعة من المشاريع الصغيرة، ولكل منها نموذجه الخاص.
  • تبني أسلوب مرحلي يمكنه تحقيق سلسلة من “المكاسب الصغيرة”؛ عملية إثبات النجاح مبكراً أمر مهم، لذا فتنظيم الموارد مهم جداً لتحقيق ذلك.
  • التواصل طوال الرحلة؛ لا تقلل من شأن إدارة التغيير والاتصالات – تغيير الثقافة وكسب العقول يستغرق وقتاً.
  • التركيز على النتائج الملموسة؛ اختر ثلاثة أشياء لإعلانها كنجاحات تحققت فعلياً، وليست متوقعة، لإظهار التقدم.

ثانياً: دور قطاع الأعمال، والمنظمات غير الربحية، والمؤسسات الاجتماعية:

  • البحث عن فرص للشراكة مع المدن. البحث عن مبادرات تطابق الأهداف التنظيمية؛ كالنظام البيئي المتنامي للشركاء يوضح كيف يمكن للجهات المشاركة غير الحكومية أن تؤدي دوراً مهماً في دفع مبادرات ذكاء المدينة الجماعي.
  • النظر إلى ما هو أبعد من مجرد التمويل المبادرات، بتحديد الفرص التي يمكن أن تضيف قيمة إلى المدينة، وإلى الأعمال، مع الموازنة بين الأخطار والحوافز وبين الكيانات العامة والخاصة ستكون أمراً ضرورياً للغاية.

ثالثاً: دور السكان

  • القيام بدور استباقي كمبدعين مشاركين في تشكيل سياسات ومبادرات المدينة.
  • نشر الوعي والتعبير عن التغيير الذي سيترتب على المدينة، وتكوين فهم أفضل عن المبادرات وتحديد آثارها على الأمن والخصوصية.

العالم يعيش الآن في عصر النمو المتسارع والتسابق الحضري، وتمكين الحكومات لوسائل الذكاء الجماعي للمدن، سيجعل السكان وقطاع الأعمال تضطلعون بدور مركزي على نحو متزايد يؤدي إلى تشكيل الطريقة التي تدار بها المدينة وتوجه مستقبلها وتطورها الحضري إلى الأفضل!

والله تعالى هو الأعلم.


[*] عدة مصادر