“لقد كان على الطبقة المتوسطة الأميركية أن تتعامل مع كل هذه الاضطرابات بمفردها، ودون شبكة أمان اجتماعي، أدى هذا إلى أشياء لم نشهدها من قبل، مثل: أزمة المواد الأفيونية، ووباء السمنة، وإفلاس المؤسسات الطبية؛ حيث يضطر الناس إلى التقدم بطلب الإفلاس بسبب الديون الساحقة للمؤسسات الطبية، والديون الطلابية الضخمة، وارتفاع معدلات التشرد والوفيات بسبب اليأس؛ حيث اضطرت الطبقة المتوسطة إلى مشاهدة الأغنياء وهم يبتعدون عنها أكثر فأكثر ، ويصعدون إلى أعلى سلم الدخل، في حين أن بعض الفقراء، على العكس من ذلك، قد لحقوا بهم، وهذا يعني أن الحلم الأميركي لا يزال قائماً ــ ولكن ليس بالنسبة للطبقة المتوسطة”.
الإجراءات الجمركية التي فرضها الرئيس الامريكي “ترامب” والتي قلبت المشهد التجاري العالمي، هذا الزلزال (أو يوم التحرير التجاري كما اعلنه الرئيس الامريكي) يقال أنه ناجم عن تحول في المجتمع الامريكي نفسه -وهي صعوبات واجهتها الطبقة المتوسطة الأميركية منذ فترة طويلة- فقد عانت الولايات المتحدة، مثل غيرها من البلدان المتقدمة، من تبعات “العولمة” و “الروبوتية”، وفشلت السياسة الاجتماعية الأميركية (الليبرالية الكلاسيكية) في مساعدة العمال على التكيف مع التغير العالمي، وكما يقول أستاذ الاقتصاد الدولي وخبير العولمة “ريتشارد بالدوين” (*)؛ قد أدى هذا إلى تغذية الإحباط الاقتصادي بين الطبقة المتوسطة، ودعم انتخاب رئيس حمائي شعبوي، وإن الحرب التجارية العالمية التي تشنها الولايات المتحدة على العالم هي محاولة للعثور على إجابة بسيطة للمشكلات الاجتماعية المحلية المعقدة التي تراكمت على مدى عقود من الزمن، لكن التعريفات الجمركية لن تحل هذه المشكلات، مما يعني أن موضوع “التجارة” بمثابة كبش فداء.
وأشار “بالدوين” إلى أن إعادة توزيع المشكلات على نطاق أوسع، أمر يتطلب فرض ضرائب أعلى، قد يساعد في حل هذه المشكلات، لكن هذا مستحيل سياسيا، ويقول: “إن فهم السياسة التجارية الأمريكية اليوم أمرٌ صعب جداً، ويكاد يكون مستحيلاً ما لم نفهم استياء الطبقة المتوسطة الأمريكية وكيف تفاقم هذا لعقود في ظل حكم الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء”. و” إن دراسة إخفاقات كل من الديمقراطيين التقليديين والجمهوريين التقليديين أمر صعب وغير مريح، لكنه سيساعدنا على فهم السبب وراء احتمال أن يكون التحول الأميركي في نهجه تجاه التجارة الدولية طويل الأمد”.
باختصار، فقد أدى استياء الطبقة المتوسطة إلى سياسة تجارية غير حاسمة خلال الفترة الأولى للرئيس الأميركي باراك أوباما [الذي تبنى التجارة الحرة لكنه فرض رسوما جمركية على الإطارات الصينية؛ ولم يتم التصديق على اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، التي جرى التفاوض عليها بعد سنوات من المفاوضات وكانت تهدف إلى إلغاء 18 ألف تعريفة جمركية على السلع الأميركية وجعل الصادرات الأميركية أكثر قدرة على المنافسة مع الصادرات الصينية، ثم تخلى عنها ترامب]، وخلال فترة ولاية ترامب الأولى، تحول تردد الولايات المتحدة إلى العداء، وخلال فترة ولاية ترامب الثانية، تحول الأمر إلى ما يشبه الانعزالية.
تقويض الحلم الأميركي
يعترف “بالدوين” بأن السؤال عن سبب غضب الطبقة المتوسطة في أميركا أسهل قولاً من الفعل؛ بشكل عام، فإن هذا رد الفعل ليس غير عقلاني، بل إنه متجذر في الواقع الاقتصادي ــ الواقع الذي لا يستطيع فيه العديد من الأميركيين حتى أن يحلموا بشراء المنزل الذي نشأوا فيه، ولا يملكون أي فرصة للتمتع بالأمن الوظيفي الذي اعتبره آباؤهم أمراً مسلماً به.
ويشير “بالدوين” هنا إلى أن الطبقة المتوسطة اليوم تجد صعوبة في تحمل تكاليف العيش بالدخل الذي.
وفي حين ارتفعت دخول جميع الأميركيين على مدى العقود الخمسة الماضية، فإن حصة دخل الأسرة التي تذهب إلى الطبقة المتوسطة كانت في انخفاض منذ ثمانينيات القرن العشرين.
ولكن الأمر لا يتعلق بالمال فقط. لقد هزت العقود القليلة الماضية ثقة العديد من العمال الأميركيين، مما أدى إلى تحطيم الحلم الأميركي؛ إن هذا الإحباط قوي بشكل خاص بين أولئك الذين لم يلتحقوا بالجامعة، وحتى بين العديد من أولئك الذين التحقوا بها.
الحلم الأميركي ليس وعدًا بالنجاح، بل هو فكرة ومعتقد مفاده أنه من خلال العمل الجاد كل يوم، يمكن لأي شخص، بغض النظر عن خلفيته، بناء حياة أفضل لعائلته؛ فقد كان جزء من الحلم الأميركي هو الاعتقاد بأن دائمًا هناك فرصة لأن تصبح أحد الفائزين، بغض النظر عن طبيعة الاضطرابات والتغيرات.
من أين تأتي هذه الثقة؟
يتذكر “بالدوين” أن صعود الطبقة المتوسطة الأميركية بعد الكساد العظيم المدمر لم يكن أقل من معجزة، لقد دمر الكساد العظين الاقتصاد الأميركي وطبقته المتوسطة، ولقد أدىإلى “الصفقة الجديدة”، وهي السياسة التي نفذت في ثلاثينيات القرن العشرين لدعم الاقتصاد ومكافحة البطالة، وإلى تحويل الحكومة إلى مساعد للرجل البسيط: كان من المفترض أن تسعى إلى ضمان التشغيل الكامل للعمالة، وهو ما لا تستطيع الأسواق الحرة الاستغناء عنه، وفقاً للمبدأ “الكينزي” الذي نشأ في ثلاثينيات القرن العشرين.
في ذلك الوقت جرى إدخال الضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة، وتشريع النقابات العمالية والمفاوضة الجماعية، وإقرار قانون معايير العمل العادلة، الذي وضع الحد الأدنى من المتطلبات لظروف مكان العمل.
وفي ثمانينيات القرن العشرين، جرى استبدال فكرة الحكومة كحامية باقتصاديات جانب العرض ونظرية التسرب. وبحسب الأول، فمن أجل تحفيز النمو الاقتصادي كان من الضروري خفض الضرائب، ونفقات الميزانية، بما في ذلك النفقات الاجتماعية، فضلاً عن الحد من التنظيم الاقتصادي. وبحسب الثاني، فإن الضرائب المنخفضة على الشركات والأثرياء سوف تعمل على تحسين الرفاهة العامة، لأنه بما أن الشركات والأثرياء سوف يمتلكون المزيد من المال، فإن الطلب لديهم سوف ينمو أكثر، وبالتالي سوف يتم خلق المزيد من الوظائف لتلبية هذا الطلب، وبالتالي فإن مستوى المعيشة للمجتمع بأكمله سوف يرتفع على المدى الطويل.
في أميركا التي نشأ فيها الرئيس الجمهوري رونالد ريغان، الذي ولد عام 1911، كان الناس يعتقدون في واقع الأمر أن الحكومة موجودة لمساعدة الرجل البسيط. ومن خلال الاستثمار العام والتنظيم المالي والحماية الاجتماعية، نجحت الحكومة الفيدرالية الأميركية في إنعاش الاقتصاد، واستعادة ثقة الجمهور في الاقتصاد والإيمان بالحلم الأميركي.
وعندما تولى ريغان منصبه في عام 1981، كان معدل الضريبة على الدخل الأعلى حوالي 70%. وبعد مرور عشر سنوات، انخفضت النسبة إلى 40%، وبقيت على حالها ــ دون أن يمسها أي من الديمقراطيين أو الجمهوريين.
ويقول “بالدوين”: إن التخفيضات الضريبية لم تكن مجانية ــ بل كان الثمن هو تآكل السياسة الاجتماعية الأميركية. ولم تتخل الحكومة عن كل البرامج الاجتماعية، ولكن اليد المرئية للحكومة حلت تدريجيا محل اليد الخفية للسوق ــ الأمر الذي أدى إلى تقويض شبكة الأمان التي يمكن للأسر العاملة أن تعتمد عليها في الأوقات الصعبة.
الصدمات العالمية: ضربة للطبقة المتوسطة
لقد تزامن تخفيف السياسة الاجتماعية مع تحول زلزالي آخر؛ ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أدت إلى تسريع الأتمتة الصناعية وتعزيز العولمة في أواخر الثمانينيات. كما إن التأثير الاقتصادي لهذه الصدمة المركبة، والتي يسميها بالدوين “الصدمة العالمية”، هو إعادة توزيع هائلة للعمالة في مختلف الاقتصادات المتقدمة. إن الجزء المتعلق بالعولمة من هذه الظاهرة يُشار إليه غالبًا باسم صدمة الصين (1، 2) – وهو الاسم الذي يُطلق على التأثير السلبي للصادرات الصينية على العمالة في الصناعة في البلدان المتقدمة.
وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن التوسع التجاري الصيني منذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 كان له في أفضل الأحوال تأثير جزئي على العمالة في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي كانت في انخفاض منذ ستينيات القرن العشرين، في حين كانت العمالة في قطاع الخدمات تنمو.
وعلى الرغم من المكاسب المشتركة التي حققتها كل من الولايات المتحدة والصين من توسع التجارة، فقد كان هناك “الخاسرون” في كلا البلدين إلى جانب “الرابحون”.
ومع ذلك، فقد جرى تقييم تأثير التوسع التجاري الصيني على أسواق العمل في البلدان المتقدمة بشكل سلبي، مما أدى إلى إثارة رد فعل مماثل. أيضاً أدى تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى فوز بعض العاملين وخسارة آخرين، وكان الأكثر تضررا هم العمال اليدويون من ذوي المهارات المتوسطة، وهي الوظائف التي كانت تعتبر وظائف جيدة في شباب” ريغان”.
لقد خلقت الأتمتة الصناعية بديلاً أفضل للعمالة اليدوية شبه الماهرة، وخاصة بالنسبة للعمال العاملين في المصانع، وأدى ذلك إلى تباطؤ نمو أجورهم وتقليص فرص البحث عن عمل لأولئك الذين فقدوا وظائفهم.
وقد حدث العكس تماما خلال هذه الفترة مع العمال ذوي التعليم العالي؛ بالنسبة لخريجي الجامعات وأولئك الذين يعملون في المهن التي تتطلب معرفة مكثفة، جلبت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مزايا، مثل: أدوات عمل محسنة كأجهزة الكمبيوتر المكتبية والمحمولة، وقواعد البيانات سهلة الاستخدام، والبرمجيات وأدوات التحليل.
ويمكن النظر إلى هذا التناقض الحاد باعتباره انعكاساً للمهارات: فبالنسبة للعمال شبه المهرة، خلقت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بديلاً، في حين خلقت للعمال الحاصلين على تعليم أعلى أدوات أفضل تكمل عملهم، وكانت النتيجة زيادة ملحوظة في عدم المساواة بعد اختراع شريحة الكمبيوتر في عام 1973.
علاوة على ذلك، فإن تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات جعل من الممكن تقسيم الإنتاج إلى مراحل منفصلة وتنسيقه بشكل كامل، حتى عند نقل بعض العمليات إلى بلدان نامية بعيدة.
وهكذا، أصبحت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قادرة على جعل نقل الأعمال إلى الخارج أمراً ممكناً وجعلت الفوارق الضخمة في الأجور مربحة.
إن النقطة الرئيسية التي لم تحظى بالتقدير الكافي هي أن نقل الصناعات إلى الخارج كان فعالاً للغاية لأنه يجمع بين تكنولوجيات التصنيع المتقدمة للشركات الأميركية والعمالة ذات الأجور المنخفضة في الاقتصادات النامية، وأدى المزيج الجديد شديد التنافسية بين التكنولوجيا العالية والأجور المنخفضة الذي خلقته عمليات نقل الصناعات إلى الخارج إلى تقليل القدرة التنافسية للعمال في الاقتصادات المتقدمة الذين كان لديهم القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا العالية والأجور المرتفعة، وواجه العمال الصناعيون في الأسواق الناشئة التي لم تحصل على خطوات الإنتاج الخارجية صعوبات مماثلة، وكان عليهم التنافس من خلال العمل بتكنولوجيا منخفضة وأجور منخفضة.
لقد تبين لاحقا أن كل هذا أدى إلى ارتفاع حاد في حصة البلدان ذات التكنولوجيا العالية والأجور المنخفضة في صناعة التصنيع العالمية، وخاصة الصين، وانخفضت حصة البلدان ذات التكنولوجيا العالية والأجور المرتفعة، وظلت حصة البلدان المنخفضة التكنولوجيا والمنخفضة الأجور المتبقية في الناتج العالمي دون تغيير تقريبا.
الدمار الاجتماعي في أمريكا
لقد كان على الطبقة المتوسطة الأميركية أن تتعامل مع كل هذه الاضطرابات بمفردها، ودون شبكة أمان اجتماعي، أدى هذا إلى أشياء لم نشهدها من قبل، مثل: أزمة المواد الأفيونية ، ووباء السمنة ، وإفلاس المؤسسات الطبية؛ حيث يضطر الناس إلى التقدم بطلب الإفلاس بسبب الديون الساحقة للمؤسسات الطبية، والديون الطلابية الضخمة ، وارتفاع معدلات التشرد والوفيات بسبب اليأس؛ حيث اضطرت الطبقة المتوسطة إلى مشاهدة الأغنياء وهم يبتعدون عنها أكثر فأكثر ، ويصعدون إلى أعلى سلم الدخل، في حين أن بعض الفقراء، على العكس من ذلك، قد لحقوا بهم، وهذا يعني أن الحلم الأميركي لا يزال قائماً ــ ولكن ليس بالنسبة للطبقة المتوسطة، كما يذكر “بالدوين”.
لكن النتيجة هي اضطرابات اقتصادية واجتماعية أدت إلى “مرض” خطير وطويل الأمد للطبقة المتوسطة، ومن الغريب أن لا أحد يبدو وكأنه يعتقد أن النظام السياسي الأميركي قادر على إصلاح هذا الأمر، أو حتى محاولة إصلاحه.
ولا عجب أن الطبقة المتوسطة غاضبة؛ كان ينتخب كل أربع سنوات ديمقراطياً تقليدياً أو جمهورياً تقليدياً رئيساً، ولكن لم يجلب أي منهما أي راحة تذكر، ولم يقدم حتى خططاً موثوقة لمعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها أميركا، وبعد كل شيء، كانت السياسة الاجتماعية المطلوبة بشدة تتطلب فرض ضرائب أعلى، وهو ما أصبح مستحيلا سياسيا في الولايات المتحدة، وكما يرى “بالدوين”: “ونظرا لكل هذا، كان صعود الشعبويين أمرا لا مفر منه تقريبا”.
فبعد أربعين عاما من تفاقم الضيق الذي تعانيه الطبقة المتوسطة، وعدم وجود حلول حقيقية، انتخب الأميركيون رئيسا مليارديرا (تاجر عقار) ألقى باللوم في تدمير الطبقة المتوسطة على العولمة والنزعة العمالية؛ وركز الناشطون في هذه النزعة على أشكال مبالغ فيها في كثير من الأحيان، كمكافحة التمييز والاستعمار، ووعد هذا الملياردير بمساعدة الطبقة المتوسطة عبر إلغاء المزيد من السياسات الاجتماعية وخفض الضرائب على الشركات والأثرياء، من الصعب فهم كيف نجحت هذه الإعلانات الغوغائية من “الترويج” للطبقة المتوسطة.
والتفسير لذلك هو أن الغضب من الديمقراطيين والجمهوريين التقليديين لإخفاقاتهم على مدى عقود دفع الطبقة المتوسطة إلى تجربة شيء، أي شيء، مختلف تمامًا عما كان عليه الحال سابقًا. كان لا بد من تغيير شيء ما، وكما يقولون، عندما تحين الساعة، سيأتي البطل، على الأقل، هذا أحد تفسيرات الزلازل السياسية التي حدثت في نوفمبر 2016 و2024 [عندما فاز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية].
لكن لماذا التركيز على مكافحة الإتجار بالبشر؟
إن ردة الفعل والشعبوية أمر مفهوم، ولكن يبقى السؤال: لماذا أصبحت الشعبوية اليوم معادية للتجارة الدولية إلى هذا الحد؟ الجواب الطبيعي على ما يبدو هو أن التجارة، دون “يد المساعدة” من الحكومة، تسببت في تفاقم مشكلات الطبقة المتوسطة، وأن السياسات المناهضة للتجارة ينبغي أن تحل هذه المشكلات، وهذا خطأ كما يشير الخبير “بالدوين” ويوضح أن الرسوم الجمركية لن تحل – ولا يمكنها – إصلاح محنة الطبقة المتوسطة الأمريكية: “حرفياً، إنه أمر مستحيل”؛
تحمي التعريفات الجمركية الصناعات المنتجة للسلع التي توظف عددا قليلا من الأميركيين (حوالي 8٪ منهم يعملون في التصنيع وحوالي 2٪ في الزراعة)؛ تعمل الأغلبية في قطاع الخدمات.
لا يمكن تطبيق التعريفات الجمركية على واردات الخدمات (يتم فرض الرسوم عندما تمر السلع عبر الجمارك، ولكن الخدمات لا تمر عبر الجمارك وبالتالي لا يمكن أن تخضع للرسوم الجمركية).
وهذا يعني أن الرسوم الجمركية لن تؤدي إلا إلى الإضرار بمعظم العمال من الطبقة المتوسطة من خلال رفع أسعار السلع وعدم توفير أي حماية إضافية لوظائف قطاع الخدمات؛ أنا أنتظر لأرى كيف سيكون رد فعل الطبقة المتوسطة، التي تعمل في قطاع الخدمات، عندما يرون أن الرسوم الجمركية أدت إلى رفع أسعار السلع التي يشترونها كل أسبوع في” وول مارت”.
وليس التعريفات الجمركية وحدها هي التي لن تساعد الطبقة المتوسطة، ولكن الأمر نفسه ينطبق على تدابير الدعم المستخدمة في البلدان الأخرى ذات الاقتصادات المتقدمة، إنهم سيطالبون بدور حكومة أكبر وضرائب أعلى، في حين أن الناخب الأميركي العادي بعيد كل البعد عن الاقتناع بأن الحكومة الأكبر والضرائب الأعلى سوف تعمل على تحسين الأمور.
وفي غياب حل فعال اقتصاديا وممكن سياسيا، لجأ الساسة الأميركيون إلى خطة مجربة، هي إقناع الناخبين بأن المشكلة هي خطأ شخص آخر!! يشير “بالدوين” إلى أن أي سياسي يعرف أنه إذا لم يتمكن من حل مشكلة ما، فسوف يتعين عليه أن يجد شخصًا يلقي عليه اللوم؛ لقد قرر الطيف السياسي الأميركي بأكمله ــ الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء ــ أن الأجانب والتجارة، وخاصة الصين، هم المرشحون الرئيسيون للعبة إلقاء اللوم.
وقال “بالدوين” إن الرسوم الجمركية لا تُستخدم كحل، بل كذريعة للتخلي عن ما يمكن أن يساعد حقاً، مثل السياسات الاجتماعية على الطراز الكندي؛ تتمتع كندا، على وجه الخصوص، بإمكانية الوصول الشامل إلى الرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي الأكثر شمولاً، على الرغم من أن معدلات الضرائب في كندا
ليست أعلى كثيراً بشكل عام (باستثناء ضريبة مكاسب رأس المال).
ومع ذلك، بلغت نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي الإجمالي في كندا في عام 2023 نسبة 34.8%، مقارنة بمتوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 33.9% ومتوسط الولايات المتحدة البالغ 25.2%.
العواقب
إن معاناة الطبقة المتوسطة الأميركية ليست نتيجة للاضطرابات التكنولوجية والعولمية فحسب -وهذا بالتأكيد ليست خطأها- إنها نتيجة لإلغاء سياسات التكيف الحكومي التي كان من شأنها أن تساعد الناس على التعامل مع هذه الصدمات.
ويخلص “بالدوين” إلى أن سنوات المعاناة المتزايدة التي تعيشها الطبقة المتوسطة الأميركية هي السبب الجذري للغضب والسخط اللذين جلبا “دونالد ترامب” إلى السلطة وقيام الحرب التجارية العالمية.
إن دور فشل السياسة الاجتماعية يصبح واضحاً إذا قارنا تجربة الولايات المتحدة بتجربة الاقتصادات المتقدمة الأخرى، ورغم أنهم عانوا أيضاً من الصدمات العالمية، فإن حكوماتهم خففت من هذه العواقب من خلال الاستعانة بـ”يد المساعدة” من الدولة، ونتيجة لهذا، كانت سلبية الطبقة المتوسطة هنا خفيفة إلى حد ما، وكانت تميل إلى التركيز على الهجرة وليس التجارة.
إن التركيز على الرسوم الجمركية يحظى بشعبية لدى السياسيين الأمريكيين، ليس لأنها تُفترض أنها الحل الأمثل لمشكلات الطبقة المتوسطة، بل لأنها تحل محل الحلول غير الشعبية سياسيًا، وتتميز الرسوم الجمركية بجعل مشكلات الطبقة المتوسطة تبدو “غير أمريكية” في حين أنها كذلك بالفعل.
ماذا يعني كل هذا بالنسبة للتجارة العالمية؟
يجيب “بالدوين” بثلاثة استنتاجات رئيسية:
أولا، سوف تستمر “أمراض” الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة لفترة طويلة للغاية، وإن السياسة التجارية [الليبرالية الفاشية] الحالية لن تحل هذه المشكلة، لأن معظم أفراد الطبقة المتوسطة يعملون في قطاع الخدمات: والتعريفات الجمركية لا تحميهم، بل على العكس من ذلك، تضرهم، وفي الوقت نفسه، فإن السياسات التي من شأنها مساعدة الطبقة المتوسطة تتطلب فرض ضرائب أعلى، وهو أمر غير ممكن في ظل المناخ السياسي الحالي في الولايات المتحدة.
ثانيا، لم تبدأ الرواية المناهضة للتجارة في الولايات المتحدة مع “ترامب”، ومن المرجح أن تستمر لفترة طويلة بعد رئاسته، لقد وجد المجتمع السياسي عبر مختلف ألوان الطيف السياسي أن الأجانب، وخاصة الصين، والتجارة في السلع، يشكلون الأهداف المثالية لإلقاء اللوم على مشكلات المجتمع الأميركي، وفي ظل غياب أي تدابير فعالة اقتصاديا ومقبولة سياسيا في الأفق لمعالجة هذه المشكلات، فإن التجارة ستظل بمثابة كبش فداء في الولايات المتحدة في المستقبل المنظور.
ثالثا، إن “أمراض” الطبقة المتوسطة الأميركية لا تعني نهاية النظام التجاري العالمي كما نعرفه، حيث تمثل الولايات المتحدة أقل من 15% من التجارة العالمية، وما لم تحذو الدول الأخرى حذو الولايات المتحدة في تعاملاتها مع بعضها البعض، فإن التجارة العالمية اجمالا ستكون على ما يرام.
«*» ريتشارد بالدوين هو أستاذ الاقتصاد الدولي في المعهد الدولي للتنمية الإدارية في لوزان. ويعد بالدوين خبيراً في السياسات الاقتصادية والتجارية العالمية والعولمة، ويقدم المشورة للحكومات والمنظمات الدولية بشأن هذه القضايا.