حققت وكالة رقمية صغيرة تدعى (IQUII) معدلات نمو مضطرة، واستطاعت أن تطور وعياً ثقافياً قوياً، وتمكنت من ترسيخه في شفرة ثقافية culture code، وهي واحدة فقط من مئات المؤسسات التي قررت أن تكتب شفرتها الثقافية الخاصة : وهذه الشفرات هي في كثير من الأحيان ليست أكثر من إعلان للنوايا، والجهد المبذول يهدف للتعريف بالقيم الأساسية التي تجعل من التراث الثقافي الذي يكمن في قلب منظمتك أكثر وضوحا.
يقول “سيمون سيسيرو Simone Cicero” كاتب المقال والمدير التنفيذي لموقع “Thinkers50” : “لقد شاركت مرات عديده في المناقشات والأنشطة المتعلقة باستكشاف الثقافات والقيم الجوهرية الخاصة بالمنظمات الناشئة، بعض العناصر الثقافية _ الموجودة أيضا في الشفرة الثقافية لوكالة IQUII _ يتردد صداها بقوة بين الحالات الأكثر ابتكارا في يومنا هذا، وفي السياقات التي تجعلك تجد نفسك -في كثير من الأحيان- واثقاً ومزدهراً في العمل؛ هذه العناصر الأساسية للثقافة تربط معظم المنظمات التي تحرك عالم الأعمال في عصرنا الحاضر.
فما هي المكونات الثقافية التي تسهم في تمكين وازدهار المنظمات؟
أولا وقبل كل شيء، هذه المنظمات الإبداعية هي تنطلق من مكون أساسي هو “القيم”: فهي لا تهتم بأي شيء لا ينتج قيمة ملموسة لعملائها وشركائها، وثانياً، لديها “عقلية النمو” القوية التي تركز دائماً على الفضول والتعلم المستمر (كوسيلة للتحسين المستمر) من خلال التجريب المستمر، وكما ذكر الكاتب “أرون ديغنان” ذات مرة، وهو يتحدث عن المنظمات سريعة الاستجابة Responsive organizations: “وهذه الشركات (الرائدة) عبارة عن آلات لا تكل ولا تمل من التعلم، ولديها تحيز شديد للعمل وتحمل المخاطر؛ ويتجلى ذلك في التجريب المتكرر ، والتكرار المستمر للمنتج، فهي تخترق المنتجات والخدمات معاً، وتعمل على اختبارها، وتحسينها، في الوقت الذي ما زال منافسوها التقليديين يعدلون في عروض البوربوينت”.
والمكون الأخير هو الثقة، والتي غالبا ما يطالها النسيان والتقليل من شأنها، بينما في حقيقة الأمر هي أمر أساسي للتمكين بالنسبة لهذه المنظمات الرائدة، ولا شك أن هذه المنظمات القادرة على التكيف في كثير من الأحيان لديها طريقتها المختلفة للتعريف عن نفسها. ويستخدم “ستيليو فيرازيرا Stelio Verzera” لوصف مثل هذه المنظمات كلمة “أوهانا Ohana” وهي تعني بالمعنى الموسع للمصطلح “الأسرة” حيث يكون الناس “مرتبطون ببعضهم البعض، وعلى الأعضاء أن يتعاونوا فيما بينهم، وأن يتذكروا بعضهم البعض” وهذا التشبيه يبدو بكل تأكيد مناسب لذلك.
إن الثقة هي العنصر الذي يساعد إلى تعزيز التعاون، وكما عبر عنها “إيسكو كليبي ESKO Kilpi” بأنها “قدرة المجتمع على التعاون هي أساس الذكاء البشري”، وقد بدأنا ندرك وعلى نحو فعال- أكثر وأكثر – أن الذكاء التنظيمي لا يمكن أن يزيد إلا من خلال التعاون. ولذلك لا يمكن تطوير بعض السمات المتقدمة للمنظمات المزدهرة (“طرق التنظيم”) إلا عن طريق التفاعلات، والمحادثات والتعاون بين الأشخاص من داخل المنظمة من (الموظفين والمتعاونين)، ومن خارج المنظمة (كالعملاء والموردين) والشركاء. كذلك الاستطلاعات الحديثة هي بطبيعتها نشاط اجتماعي وتفاعلي (من خلال التعاملات) ولذلك نجد أن المنظمات البيروقراطية التي تفكر في إطار المحددات والتنافس غالبا ما تفشل في الحصول على الآراء الصحيحة، ونجد في عصر ما بعد الصناعة، أن المنظمات البيروقراطية أقل ذكاء بسبب هذه الحدود، ولماذا التضايق من ثقافة الناس بينما يمكن تغيير العمليات من خلال نشر تقنيات التعاون؟
ذكر “إندي جوهر” أثناء مشاركته الأخيرة في مؤتمر في كوبنهاغن: “كل إنسان هو عبارة آلة ذكية هائلة تتمتع بالقوة، ولكننا نعامل البشر على أنهم آليين سيئين لا يفهمون”.
يجب على المديرين ومصممي المنظمات عكس هذه الجملة وفهمها فهماً عميقاً جدا، فكثيرا ما نعتقد أننا نستطيع تعديل مسار المنظمة ونجعلها أكثر قوة فقط عن طريق العمل على التقنيات المساعدة، مثل هندرة أو إعادة هندسة عملية معينة أو الحصول على برنامج جديد. ونميل إلى الاعتقاد بأن التغيير في التكنولوجيا يمكن أن يؤدي إلى التغيير الذي تريد أن تراه في سلوك المنظمة، وهذا غير خطأ فاضح. والمخطط (التالي)، والمستوحى من ديناميات السوائل، يبين وبشكل واضح للغاية حقيقة لا نسمع عنها في كثير من الأحيان عندما يتعلق الأمر بجهود التحول التنظيمي (الرقمي) في المنظمات وهي أنه: يمكنك إدخال عمليات وتقنيات جديدة، والعمل على إيجاد كفاءات جديدة، ولكن التغيير المؤثر والأكثر ديمومة في مؤسستك يأتي من الإجراءات التي تقوم باتخاذها لمواءمة أهداف مؤسستك مع أهداف البيئة البشرية لديك، ومواءمة الوعي السائد في مؤسستك مع الوعي الذي يسود لدى الناس من حولك، مع إيجاد السياق الذي يمكنهم من خلاله التعبير عن أنفسهم وبكلياتهم، وتحقيق أهدافهم في الحياة، وتحسين قدراتهم ومستويات أدائهم يمثل قدراً كبيراً من العمل الذي يتعين القيام به.
وإن التغييرات في مدى اهتمام المنظمة بموظفيها وإعلائها من شأنهم والمحافظة عليهم ومساعدتهم على التطور، من شأنه أن يحقق تغييراً قوياً وأكثر ديمومة، وسيصبح هؤلاء الناس الشركاء المساهمون في بناء ثقافة المنظمة، وسيساعدون المؤسسة على تطوير كفاءات جديدة (من خلال التعلم والفضول والنقاشات والعلاقات)، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى اعتماد عمليات وأدوات جديدة – تكنولوجية وتنظيمية على حد سواء – مهمة للغاية بالنسبة لطريقتهم في التواصل وتنفيذ العمل القيّم.
وخلاصة القول، التغيير سيتحقق لا محالة عندما تبدأ بالاستثمار في فهم وتشكيل سلوك الناس، ثم هم بدورهم سيقومون بتشكيل سلوك المنظمة.
هناك سؤال يتردد : لماذا يحدث هذا التغيير العصري في كيفية إيجاد القيمة داخل المنظمات وخارجها؟
يحدث لأنه في المقام الأول ممكن. فالتكنولوجيا لديها مثل هذا التأثير المدهش في الانتقال بين العصر الصناعي وما نسميه العصر ما بعد الصناعي، وهناك اثنين من الآثار الرئيسية لتطور التكنولوجيا قاما بنقلنا من مفهوم الشركة باعتبارها وسيلة للسيطرة على الإنتاج لمفهوم جديد للشركة كوسيلة لتصميم ودعم التفاعلات.
أولا وقبل كل شيء، لأن التكنولوجيا ساعدت الأفراد في استعادة قدرتهم في الوصول إلى (وملكية) وسائل الإنتاج: في الوقت الحاضر الغالبية العظمي من العمل [المعرفي] يمكن القيام بها بمساعدة الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، ولن تحتاج إلى أدوات معقدة بعد الآن. وثانيا، ساهمت التكنولوجيا في تخفيض تكلفة توفير معظم البنى التحتية للعمل الحديث، وهي مكملة للوسائل الشخصية للإنتاج، وأنا هنا بطبيعة الحال أتحدث عن الاتصال، والقدرة على تخزين البيانات والقدرة الحاسوبية ولكننا وعلى نحو متزايد أيضا نرى بنى تحتية أكثر واقعية وقد تحولت إلى سلع وأصبحت متاحة للجميع في كل مكان، بما في ذلك الخدمات اللوجستية، والأدوات المالية، والقدرة على التصنيع وإنتاج الطاقة.
هذه العملية، بشكل خاص ساهمت في تسهيل التعاون بين الناس والإبداع على نطاق لم يسبق له مثيل وبمستوى غير مسبوق من التنسيق الذاتي، حتى دون التواجد في المكان نفسه، ودون يكونوا في نفس الموقع، وفي نفس الورشة أو حتى دون الانتماء رسميا إلى منظمة واحدة.
لقد منحت التكنولوجيا الناس الوسائل اللازمة للتوفيق بين المصالح والدوافع ومن ثم تحقيق نتائج قوية للغاية، تاريخ البرمجيات مفتوحة المصدر – وفي الآونة الأخيرة – حالات ملموسة مثل إنشاء تقنيات سجل المعاملات المفتوحة الموزعة مثل Blockchain والـ Bitcoin تعد من الأمثلة التي تجسد هذه الوسائل.
في المقام الثاني الطريقة التي نخلق القيمة من خلالها في المنظمات، هي متغيرة، لأنها مطلوبة: كما يتزايد الناس في العالم من خلال تزايد عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ (هناك اختصار لذلك VUCA، متقلب، غير مؤكد، معقد، وغامض Volatile, Uncertain, Complex, and Ambiguous)، وهو واقع يملي على المنظمات أن تتطور نحو التكيف الجذري، فهذا السياق الجديد يتطلب منا إعادة التفكير وإعادة تصميم الهياكل التنظيمية لدينا وفقا لذلك.
لقد جلب لنا العصر الصناعي مبادئ العلوم الإدارية وقدم لنا التنظيم المثالي للتعامل مع الكفاءة، والتكرار، والمراقبة والتخطيط، والهياكل الجامدة لبيروقراطية الشركات. وإن عصر ما بعد الصناعي الذي لا يمكن السيطرة عليه، ولا يمكن التنبؤ بمآلاته والذي يتسم -أحياناً- بشيء من الجنون، يتطلب إعادة النظر في نماذجنا القيادية؛ يجب أن تتوافق مع الذيول الطويلة، والاحتياجات العابرة ووفورات (اقتصاديات) النطاق، وعليها أن تتخلى عن التخطيط وتتبني القدرة على التكيف، والقابلية للتطوير والتجريب والتعلم، فاللاعبين الذين لا يجدون استخدام القوة اللازمة للشروع في التغيير، سيختفون تماماً.
في موضوع قام بنشره “نيلز فليجينغ Niels Pflaeging” يصف فيه الطريقة التي تعمل بها هذه المنظمات المزدهرة، اشار إلى وجود ثلاثة أنواع للهياكل التنظيمية التي لتعامل المنظمات مع “التعقيد complexity”:
الأول هيكل رسمي، ويعرف بالتسلسلات الهرمية للإدارة التقليدية، وهذا الهيكل هو بطريقة أو بأخرى من الماضي؛ يحتفظ به فقط لأنه يضمن الامتثال للأنظمة والقانون (يتحمل المسؤولية القانونية، ويتلقى الاستثمارات ويدفع حصص المساهمين، الخ …).
والهيكل الثاني، هو الهيكل الاجتماعي، ويستند معظمه على العلاقات والنفوذ والتفاعلات الاجتماعية: وهو متأصل في المنظمات منذ أن كانت التفاعلات الاجتماعية بطبيعتها موجودة، فيمكنك مثلاً اقامة علاقات صداقة مع الرئيس التنفيذي للشركة وهذا سيمنحك في نهاية المطاف المزيد من النفوذ للتأثير في المنظمة.
الهيكل الثالث والأكثر إثارة للاهتمام هو هيكل خلق القيمة، ويتعلق بكيفية تنظم المنظمة لنفسها عندما تحتاج إلى توفير قيمة مضافة للعملاء والمستخدمين.
” الهياكل التي تخلق القيمة يمكن تمثيلها على أنها شبكات من الخلايا تحتوي على فرق متكاملة وظيفيا، والتي تترابط من خلال تدفق القيمة، والمرتبات، وعلاقات التواصل، وفي الهيكل، كل خلية إما أنها تخلق قيمة لخلايا الشبكات الأخرى (في حالة المركز) أو للسوق الخارجي (في حالة المحيط)، والخلايا، أو الفرق، تستجيب لتأثير السوق – وليس للتسلسل الهرمي”.
وفي هذا السياق القيمة لا يتم إنتاجها فقط “داخل” المنظمات بل يتم إنتاجها على الطرف (الحافة) ما بين الداخل والخارج. وبالمناسبة، هناك علاقة دائما (داخلية كانت أو عبر الحافة) وهي نفس مفهوم الداخل مقابل الخارج في المنظمة، والذي بدأ الآن يفقد معناه وبات يفسح المجال لمفهوم المنظمات التي تختفي فيها الحدود وتتكون من العناصر المتباعدة.
علاوة على ذلك، هناك سؤالاً أساسيا: هل العلامات التجارية الرائدة الحديثة، في العالم مثل Airbnb و Apple ، تقوم فعلاً بتعريف نفسها من خلال موظفيها؟ الجواب هو لا.
فبصمة أبل على العالم تمتد لتشمل عالماً بأسره من مطوري التطبيقات، وكذلك العلامة التجارية لـ Airbnb تجسدت من قبل المضيفين لها، والإمكانات الإبداعية لأمازون التابعة “لاليكسا” أملتها الشركات التي تقوم الآن ببناء مهاراتها، ولا يوجد منهم من هو موظف مباشر لدى المنظمات المذكورة.
وبالنسبة للمنظمات التي تسيطر على هذا القرن، فإن خلق القيمة غالبا ما يتوسع على نطاق واسع جدا في النظم الإيكولوجية (البيئية) من خلال إنشاء منصات، ولا تبقى محصورة في مجال العلاقات القوي التي يتشكل منها جسم المؤسسة (على سبيل المثال: الموظفين والمتعاقدين) .
لقد اكتشف منظمو الشبكات (ما يسمى بأعمال المنصات) أنه يمكنها أن تصمم وسيلة للشراكة قابلة للتوسع والتطوير (وتعمل على مواءمة هدف المنظمة مع العديد من الكيانات الأخرى)، وهذا يسمح بخلق القيمة مباشرة داخل النظم الإيكولوجية للسوق، وبدعم ووساطة من المؤسسة الرائدة.
وبطبيعة الحال – وإلى حد ما – فالهياكل الرسمية ما زال يُعول عليها في مساعدة المؤسسات في الالتزام بالقانون والأنظمة وتنفيذ ونقل رسائلها الخاصة : ولكن، وعلى نحو متزايد، فإن ما يحدد ذلك هو النظام البيئي ecosystem للمنظمة بأكمله، وإذا لم يؤخذ ذلك في عين الاعتبار في عمل المنظمة أو عندما تقوم برسم معالم مستقبلها ، فحينئذ لن تخسر المنظمة فرصة لتضخيم دورها في تشكيل الأسواق، وتحقيق التأثير والتطور وحسب، ولكن ستتعرض لخطر الخروج السريع من السوق.
مترجم بتصرف ( The Meaning of the Platform Organization)