هناك موجة من الاضطرابات في طريقها إلينا ، لم تأتي هذه المرة على أنها نتيجة للتطور التقني أو نماذج الأعمال الجديدة ولكنها تأتي بفهم جديد لكيفية عمل الدماغ البشري ولطريقة البشر في اتخاذ القرارات وتبني الخيارات. ولعله من المرجح على ما يبدو أن التغييرات التي ستأتي بها هذه الاختلالات ستقوم بتقزيم التغييرات التي سبقتها.
إن مجموعة الأحداث الواقعية والأبحاث الجديدة التي جرت خلال العقد الماضي، قامت بدحض العشرات من النظريات التي تدعم جميع التخصصات من علم الاقتصاد إلى علم نفس المستهلك. ولم يعد من الممكن الآن الاعتماد على الحقائق التي كان يعتمد عليها مدراء الأعمال، والمصرفيين ومتخذي القرارات في جميع أنحاء العالم. كما أن الأسس التي ظلت تستند إليها النظريات الاقتصادية نفسها، ولاسيما نظرية الاختيار العقلاني (Rational Choice) ، وقانون العرض والطلب (the law of supply and demand) ، وفرضية السوق الفعّالة (Efficient Market Hypothesis) ، ونظرية إيفريت لنشر الابتكار (Everett’s theory of Innovation Diffusion) – التي قامت بصياغة المصطلحات مثل: “المبادرون المبكرون أو المستهلكون الأوائل early adopters” و “المتقاعسون laggards”) ، وحتى نظرية كلايتون كريستنسن (Clayton Christensen) للابتكار المزعزع (Disruptive Innovation) قد ثبت الآن أن الابتكار في أحسن الأحوال يكون دقيقاً فقط في سياقات معينة، بينما يكون خطأ فادحاً في أسوأ الأحوال. (المراجع المدرجة في نهاية هذا المقال تبين ثبوت عكس النظريات المشار إليها.)
إن استبدال النظريات القديمة بأخرى جديدة أمر طبيعي في جميع التخصصات العلمية والبحثية. حيث يتم تحقيق المزيد من التقدم عند استبدال نظرية قديمة كانت ثابتة بأخرى جديدة تقدم تفسيراً أفضل وأكثر وضوحاً للموضوع قيد البحث أو الدراسة، وتقوم بتغطية كل الجوانب التي شملتها النظرية القديمة وبالإضافة إلى ذلك تجد معالجات لأوجه القصور والانحرافات والاستثناءات التي وقعت فيها النظرية السابقة. بيد أن الأمر النادر هو حدوث تغيير شامل للأسس التي قامت عليها التخصصات المتعددة ، وكل ذلك مدفوع بفهم جديد لا يمكنه فقط تقديم تفسير أفضل في إطار تخصص بعينه وحسب ، بل يوفر أيضًا القدرة على التكيف عبر هذه التخصصات. وهذا يعني ، أنه يقدم تفسيرا مشتركا مدعوما بالأدلة من مجموعة متنوعة من المجالات، وفي نفس الوقت يقدم أيضا تفسيراً لمختلف الاضطرابات (الاختلالات) والملاحظات الحقيقية المسببة للقلق والتي لا يمكن تفسيرها في العالم الواقعي.
إن ما يقوم الدليل بتوضيحه الآن هو أن الدماغ البشري يتألف من تراكيب مادية منفصلة ولكنها شديدة الترابط. وتعمل هذه الوحدات المتطورة وتتفاعل بطرق مختلفة تمامًا عما كان يُعتقد سابقاً، وبطرق تؤثر بشكل مباشر ومستمر ومتوقع على عمليات صنع القرار والخيارات.
وبدلاً من أن نكون متحيزين بعيداً عن المصلحة الذاتية العقلانية ، فنحن مضطرون بحكم طبيعتنا الوراثية إلى تقييم مجموعة متنوعة من الأشياء المحددة بشكل مستقل. فنحن عادة ما نقاوم فقداننا للوضع النسبي ، الابتكار ، والانتماء ، والإشاعات ، وأكثر من ذلك (الإشاعات هنا في هذا السياق بشكل خاص يقصد بها المعلومات حول الشركاء الجنسيين الفعليين أو المحتملين للآخرين أو بخصوص الأحداث أو الأفعال التي أثرت على الوضع النسبي للآخرين) . وهذه الأشكال من القيمة تختلف عن المال أو “المنفعة” كما يصورها الاقتصاديين تقليديا. هذه الأشكال المنفصلة من القيمة ليست قابلة للتبادل عالميا أو قابلة للقياس بشكل مستقل.
فهي في مجملها نسبية إلى حد كبير وهناك العديد منها سياقي يرتبط بالقرائن. فهي موجودة فقط عند مقارنة شخص بآخر ، وغالبا في سياقات محددة فقط. ولا يمكن استخدام واحدة منها للحصول على الأخرى. لا يمكن لأي مبلغ من المال أن يصنع شيئا جديدا أو يشتري مركز البطولة في فنون القتال المختلطة (MMA) بين مجموعة من ممارسي الألعاب الرياضية.
فالشخص عادة ما يكون لديه وضعاً معيناً فقط مقارنة بالآخرين. فوضع الشخص في غرفة العمليات أو قمرة القيادة لا يساوي ذات الوضع في ملعب كرة السلة. ومع ذلك ، في جميع الحالات ، الوضع النسبي يعتبر قيمة مضافة، وسنكون سعداء بأن نبذل ما بوسعنا من أجله.
حيث أن ذوي المكانة العالية يخطب ودهم الجميع بطبيعة الحال عالميا والناس يسعون للظفر بصداقتهم. لا أحد يريد أن يكون آخر شخص يتم اختياره ، بل أن الكثيرين يمكنهم القبول بلقب أفضل وأكبر مقابل دفع المزيد من الأموال. وبينما يبدو المال هنا هو المحرك، إلا أنه في الغالب الأعم، مجرد أداة للحصول على وضعية معينة.
أي شكل من أشكال القيمة يكون موجوداً ويتم إدراكه بسبب وجود وحدات عصبية مستقلة تعمل بشكل مستقل. لا تعمل أدمغتنا كنظام واحد لصنع القرار أو حتى بمجرد الدمج بين نظامين أحدهما سريع والآخر بطيء. بدلا من ذلك ، يتم تنشيط هذه الوحدات بشكل مستقل بواسطة أنماط محددة من المنبهات وتتصارع فيما بينها من أجل السيطرة أو التأثير جنبا إلى جنب مع نظام الوعي لدينا بينما يتم تحفيزها وتشجيعها أو قمعها من قبل مختلف الحالات العاطفية. وبينما ترتبط هذه الوحدات مع الهياكل المادية التي تمكّن قدراتنا الواعية و”العقلانية” ، فإن الإدراك والحكم على “قيمة” كل شكل تتم لا شعوريًا وضمن البنية العصبية الفيزيائية المتميزة المرتبطة به. وبالتالي، لا يمكن مقارنة كل شكل من هذه الأشكال أو مساواته مع الأشكال الأخرى للقيمة المُتصورة.
وبالإضافة إلى الحاجة إلى متابعة الوضع النسبي والابتكار والإتقان وغير ذلك من أشكال القيمة الفريدة والنسبية وغير القابلة للقياس التي يمليها الوضع وراثياً ، يشير البحث إلى ما يلي:
1. سمات القيمة هذه بالرغم من كونها شائعة في كل المجموعات السكانية، إلاّ أنها تتوزع بناء على نسب توزيع المنحنى الجرسي الطبيعي للسمات متعددة الجينات. وهذا يعني أن نسبة ضئيلة من الناس لن يقدّروا الوضع الذي يعيشونه أو الابتكار على الإطلاق ، بينما هنالك نسبة قليلة منهم تكون مهووسة بها ، وستقوم الغالبية العظمى منا بمتابعتها أو تقييمها بشكل نسبي.
2. “السلامة النفسية” وهي تعد عنصراً أساسياً لجميع قرارات التبني. إن التفضيلات الشخصية التي يتم الإبلاغ عنها ذاتيًا ، والمصالح الذاتية الاقتصادية ، وحتى السلامة البدنية، أمور ثانوية بالنسبة للكثيرين منا. والسلامة النفسية في هذا السياق يقصد بها القرار الذي ليس له تأثير سلبي على حالة الشخص أو انتمائه أو تعريفه.
3. المعلومات والآراء وحتى المنتجات الجديدة التي تتعارض مع التعريف الذي نحتفظ به مسبقاً في ذواتنا ستؤدي إلى نفس الدائرة : “الموقف ، أو الخضوع ، أو التجنب أو الفرار ، أو القتال” باعتبارها تهديدات جسدية. سنقاوم وسنبرر سبب رفضنا لأي شيء يقلل من قيمتنا أو يحد دورنا أو انتمائنا داخلياً أو ضمن مجموعة تشكل جزءًا من هويتنا الذاتية بغض النظر عن أي تقييم موضوعي أو الفوائد العقلانية للتبني.
4. استعداد الناس لتحدي الآخرين يظهر أيضًا في توزيع منحنى الجرس القياسي. وبشكل عام ، معظم الناس يترددون في تحدي الآخرين. نظرًا لاعتماد فكرة أو منتج جديد سيؤدي إلى إطلاق دائرة “القتال أو الهروب أو الخضوع” لدى الآخرين ، فإن أي قرار بتبني منتج جديد أو فكرة جديدة سوف يعتمد على تقييم اللاوعي لدى متخذ القرار إذا كان يُنظر إلى اختياره على أنه تحدٍ للآخرين وكيف سيؤثر القرار على وضعهم وانتمائهم أو إدراك الآخرين لوضعهم وانتمائهم. وهذا يعني أنه بدلاً من أن تكون خياراتنا هي نتاج التفضيل الشخصي وتصنع فقط داخل رؤوسنا، فإن عمليات اتخاذ القرار الخاصة بنا تكاد تكون اجتماعية أو جماعية بطبيعتها.
5. الانتماء ، أو الخوف من نبذ المجتمع ، هو من أقوى الاحتياجات أو من أشكال القيمة. الوضع النسبي داخل المجموعات التي تشكل جزءًا من هويتنا الذاتية هو من أشكال القيمة التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث التأثير.
6. إن التأثيرات المستمرة والمتسقة وطبيعتها الاجتماعية تؤدي إلى تشكيل سلوكنا ضمن المجموعات وبين المجموعات التي يمكن التنبؤ بها بدرجة كبيرة بغض النظر عن حجم المجموعة.
هذه الحقائق لها عواقب طبيعي وعميقة. المال ليس هو المحرك الوحيد للاختيار أو الإجراءات أو التبادل. بل المال مجرد وسيلة أو أداة لتحقيق وضع معين في كثير من الحالات. بالنسبة للمسوقين ومديري المنتجات ، سيتم تقييم المنتج الذي يحقق الوضع المطلوب ويتم تبنيه بشكل أوسع من منتج أفضل منه ولا يرتبط بأي وضع سلبي. وقد استفادت العلامات التجارية المميزة من هذه الحقائق لعدة أعوام. جهاز آي بود الذي انتجته شركة أبل حقق هذه الميزة دون أن يعرف ذلك. ولكن جميع إصدارات شركة أبل Apple منذ ذلك الحين حاول محاكاة أو إعطاء أشكال متعددة من القيمة ابتداءً من الأداة المساعدة التقليدية إلى تحقيق الوضع المنشود وأكثر. شركة تسلا Tesla المتخصصة في صناعة السيارات الكهربائية وضعت قيمة هائلة في استراتيجيتها ذات التأثير الهائل ، نجحت في بيع السيارات الكهربائية الصديقة للبيئة حيث فشل الآخرون في الغالب لأنهم ركزوا فقط على الفوائد البيئية. وقد نجحت شركة تسلا Tesla ببيع سيارة رياضية ذات كفاءة عالية وتعمل بالطاقة الكهربائية. مشغلات الـ MP3 ، ونظارات جوجل ، وأجهزة التلفزيون ثلاثية الأبعاد أصبحت ضحية الوضع السلبي المرتبط بأوائل مستخدميها “غريبي الأطوار”. وقد عانت أجهزة التلفزيون ثلاثية الأبعاد من الحاجة المربكة اجتماعيًا لارتداء نظارات غير مستحبة. جعلت نظارات جوجل أيضًا الأشخاص يشعرون أن الآخرين ينظرون إلى خيارهم ويتبنونه كتحدي. النجاح أو الفشل في كل حالة لم يكن نتيجة التحليل أو المنفعة الاقتصادية التقليدية ولكن كان نتاج هذه الأشكال البديلة من القيمة.
المنظمات الأكثر تأثيرا ستتجه إلى تغيير طريقة تفكيرها في كيفية تحفيز العملاء على الشراء وكذلك كيفية تحفيز موظفيها. والبرامج القائمة على هذه الحقائق تحديدًا ستوفر برامج حوافز قوية تؤثر بشكل كبير على سلوكيات الموظفين وأداء فرق العمل، والعمل على محاصرة السلوكيات السيئة مثل بيع المنتجات بشكل غير لائق لمجرد الحصول على عمولة.
عمليات التوظيف ومراجعات الأداء وهيكلة الفرق ستتغير أيضًا باتجاه تقليل التحيز أو إزالته ولتحسين أداء فرق العمل. الشركات التي تتبنى وتطبق هذه الحقائق الجديدة وبشكل سريع، ستتمكن من تحقيق ميزة استراتيجية كبيرة على تلك التي لا تقوم بالشيء نفسه.
الوعي بدور المكانة والانتماء وعدم الميل الفطري للناس لتحدي الآخرين، والطبيعة الاجتماعية لصنع القرار ، واستجابتنا للموقف “بالمواجهة أو الانسحاب” بشكل ناقد للأفكار والمقترحات التي لا تتماشى مع صورتنا الذاتية ستسمح بحقبة جديدة من صناعة القرار الأكثر موضوعية والاختيار الموضوعي للمشاريع.
“التفكير الجماعي” ليس مجرد حالة لبيئة فريدة من نوعها ، ولكنه سلوك يمكن أن تجده في كل مكان تقريبا. هذه التأثيرات تلقي بظلالها على العمليات الداخلية لاتخاذ القرار على قدم المساواة داخل منظمة وعمليات القرار الخارجية للأفراد والجماعات التي تضم السوق. 90٪ من مبادرات الابتكار ، والمنتجات الجديدة ، وبدء التشغيل ، والتغيير التنظيمي تفشل في تحقيق أهدافها التجارية. ومع أن هذه الإخفاقات تساهم فيها مجموعة متنوعة من القضايا ، إلا أن هذه العواقب التي أسيء فهمها سابقاً لطبيعتنا ، والطريقة التي تعمل بها أدمغتنا ماديًا ، وغياب الموضوعية أثناء عمليات الاختيار ، ودور الوضع الذي نتمتع به، والفشل الشائع في الاعتراف ومعالجة الافتراضات والتأثير الجماعي لهذه النظريات المعيبة التي ثبت فشلها الآن ، وهذا يمثل أحد أهم الأسباب.
القيادة المضطربة لأولئك الذين يطبقون المعرفة بهذا الفهم الجديد للطبيعة البشرية والاختيار، سواء كان ذلك داخل المنظمة أو في تطوير منتجات جديدة ، وحملات التسويق ، وجميع التفاعلات مع أصحاب المصلحة من خارج المنظمة ، سيؤدي إلى تغيير الطريقة التي ننظر بها إلى نجاح الأعمال. فقاعات سوق الأصول ، التي يتعارض وجودها مع النظرية الاقتصادية التقليدية التي ما زال بعض الاقتصاديين ينكرونها ، يمكن تفسيرها وتوقعها الآن. إن سلوك مطلقي النيران الكثيفة، والمفجرين الانتحاريين ، وقادة العالم ، وظهور حركات سياسية كاملة وتبنيها وسلوكها يمكن الآن تفسيره والتنبؤ به. من الاكتئاب في سن المراهقة والبلطجة إلى العلاقات الدولية الناجحة ، قد يكون حل المشاكل السابقة مستعصية الآن.
التغيير قادم. ولتحقيق ذلك لابد من احتضان العلم الحديث للطبيعة البشرية.
المصدر: www.innovationexcellence.com