الكاتب : د. وصفي الروسان
منذ أن دخل الفكر الاستراتيجي بمفاهيمه المتعددة إلى علم الإدارة مطلع ستينيات القرن الماضي، حقق نقلات نوعية في مفاهيم التنمية والتطوير على مستوى اقتصادات الدول ومجتمعاتها من أمريكا إلى أوروبا وصولا إلى منطقة العربية التي استقبلته بحفاوة أملا أن يغير في اقتصادها الأحادي ومجتمعها الأمي تقنيا في تلك الفترة.
وبما أن أصل الاستراتيجية يعني فن الحرب، والحرب تقودها الجيوش، فقد قادت جيوش من الشركات الاستشارية هذا الفكر في منطقتنا بثوب عالمي وعربات محملة بالحلول الاستشارية لأزماتنا ومشكلاتنا، وتعدت بعض أدوارها التحول في فكر الاقتصاد والمجتمع إلى التغيير المبني على تجارب غربية في عالميتها.. غريبة في حلولها.
نتفهم تماما أن العالم الأول تطور بفعل هذا الفكر، ولكننا نفهم أيضا أن احتياجاتنا غير احتياجاتهم، وأن فهم ثقافتنا ومواءمتها مع احتياجات التطوير وحلول التكنولوجيا أهم من النسخ واللصق من معايير البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ومتاهات السياسة العالمية لتطبيقها على مجتمعات تختلف رؤيتها لمفاهيم التميز والرفاه وحتى السعادة.
ودليل ذلك أن لدينا من التجارب العربية والخليجية تحديدا نماذج أصيلة بمعايير عالمية وخطط صيغت بقدرات وطنية استفادت من الجهد الاستشاري الملتزم بأخلاقيات المهنة التي ضعفت في مواقف تحقيق المكاسب المادية الهائلة على حساب أصول العمل وأمانة الاستشارة.
وأيضا، لم يعد الترويج المحمل بالمغالطات في بعض التحليلات المستقبلية عن اقتصاديات المنطقة العربية والخليجية تحديدا جاذبا لتسويق أصحاب هذه التحليلات لإنقاذنا من الخطر القادم باعتبارهم أول من أدركه – باستشرافهم – بل أصبحت في فهمنا ووعينا الكلي وسيلة أخرى لانتهاك أخلاقيات المهنة.
كما أن الاعتقاد بأن طالبي الاستشارة من الجهات المختلفة وخاصة الحكومية هدفهم الأول هو إضفاء الشرعية العلمية والمنهجية على رغباتهم وتوجهاتهم هو خاطئ في زمن سباق المستقبل الذي حتّم انتهاء سياسات العمل الموجهة بالعملاء، والتي تجامل/ تتنازل فيها الجهة الاستشارية عن الرأي العلمي إذا خالف توجهات أشخاص في تلك الجهات، في حين أحيا بالمقابل سياسات العمل الموجهة بالعمل نفسه، فدور الاستشاري في أبسط قواعد المهنة دعم توجهات الجهات لا الأشخاص وتوجيه الموارد بأنواعها لخدمة ذلك.
المطلوب بتقديري من الجهد الاستشاري قبل أن يسوق حلوله المعلبة أن يلتزم بأخلاقيات المهنة وأصول الدور الاستشاري القائم على فعالية وكفاءة التكلفة مقابل الخدمة الاستشارية، والالتزام بسرية وخصوصية العملاء ومجتمعاتهم، والابتعاد عن التنظير الذي تعج به أدبيات علوم الإدارة والذي يبني المدن الفاضلة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا على الورق فقط.
المستقبل يقترب بسرعة لم يتوقعها أحد حتى الجهات الاستشارية نفسها، وهذا يعزز دور الجهات الاستشارية أكثر من أي وقت مضى خاصة في منطقتنا العربية لدعم الاقتصاديات الفتية وتوجيه العتيدة، وإحداث التحول الثقافي الذي ينعكس على مجتمعات وبيئات العمل وطريقة أداء الأعمال.
أما الكارثة إذا كانت أخلاقيات المهنة الاستشارية في ظل هذا التسارع على المحك، لأنها تسير بالخطط سواء الوطنية أو القطاعية أو حتى المؤسسية نحو نفق أكثر ظلاما من سوء التنفيذ، وفي ظل ذلك نضطر كل مرة للاستعانة بجهة استشارية جديدة لكننا نصر على أن تكون أكثر تطورا، أو أكثر عالمية، أو أكثر تقنية، لا أكثر أخلاقا!!
لنتفق أن ما يمكن أن يحقق التطور والتنمية في بلد ما ليس هو نفسه الذي سيحققه في بلد آخر، وأن الأدوات والتقنيات التي تحقق الأهداف في منطقة ليس بالضرورة أن تكون صالحة للتطوير في منطقة أخرى، كما أن الحلول التي نهضت باقتصاد ما أو طورت أداء ما في مكان ما وفي زمن ما ، ليست تعويذة للجهات الاستشارية لتحقق نفس النهوض والتطوير في كل زمان ومكان .
إن كل هذه متغيرات.. والثابت الوحيد هو أخلاقيات مهنة الاستشاري ودوره كمؤتمن … وهذه لا تفهمها لغة المال، بل لغة الانتماء.
* د. وصفي الروسان، خبير الاستراتيجيات .