النهضة الصناعية هي عبارة عن تحولاتٌ علمية واقتصادية واجتماعية، مما يؤثر بعمق في تراتبية قطاعات الإنتاج من حيث إسهامها في الاقتصاد. ويحتاج تحقيق أي نهضة صناعية إلى خارطة طريق من أربع مراحل مترابطة كالدائرة، تشمل: مرحلة تحديد أو اختيار المنتجات ذات القيمة الاقتصادية العالية بالنسبة للدولة ، ومرحلة تقليد المنتجات المنافسة، ومرحلة تحقيق الميزة التنافسية على منتجات الدول الأخرى، ومرحلة دمج المنتجات الصغيرة لتصنيع منتجات أكثر تعقيداً.
وفيما يلي توصيف مختصر لكل مرحلة :
المرحلة الاولى: تحديد أو اختيار المنتجات ذات القيمة الاقتصادية العالية بالنسبة للدولة.
المنتج هو البداية والنهاية في الصناعة؛ عندما تفكر في اليابان فأول ما يخطر ببالك هو“ تويوتا ”و ”سامسونج ”يخطر ببالك كوريا الجنوبية، أما ألمانيا فسيكون“ مرسيدس”، ويمكن قياس ذلك على غيرها من الدول المتقدمة صناعياً.
فالخطوة الأولى إذاً هي تحديد المنتجات التي نريد أن نقدمها للعالم، وذات قيمة بالنسبة للدولة المنتجة حتى تضمن العائد الربحي الذي يكفل استمرارها.
فعلى سبيل المثال إذا كانت الدولة تتوفر فيها الطاقة الشمسية بكثرة فإن صناعة الألواح الشمسية قد تكون أحد الاقتراحات المناسبة. وإذا كانت التركيبة السكانية للدولة فيها نسبة الشباب أعلى من نسبة كبار السن فيجب التفكير بمنتجات تتعلق بالشباب، ولقد اعتمدت اليابان على صناعة الغزل والنسيج وعملت على تطويرها وذلك بسبب وفرة المواد الخام فيها. فيجب اختيار المنتجات بعناية، ولا نقصد بالمنتجات تلك الملموسة فقط، بل أيضاً البرمجيات بحيث تتم مراعاة ثروات الدولة، وعاداتها، وقيمها، واحتياجاتها.
ومن المنطقي البدء بالصناعات الصغيرة والمتوسطة وذلك من باب التدرج في الطريق إلى النهضة؛ فما الفائدة من تصنيع السيارات إذا كنا سنستورد كل قطعها من الخارج؟ فعلى الرغم من أن شركات تصنيع السيارات وحتى الطائرات تقوم على التجميع، إلا أنه يجب التزود بالمحركات والأنظمة الأخرى المختلفة من مُوَرِّدِينَ محليين أو على الأقل من ضمن نفس المجموعة الصناعية، فمثلا، يتوزع مُوَرِّدُونَ تصنيع طائرات“ إيرباص ”في أنحاء مختلفة من الاتحاد الأوروبي، وهكذا.
المرحلة الثانية: تقليد المنتجات المنافسة.
هذا هو ما اعتمدت عليه النهضة الصناعية في كل من اليابان، وألمانيا، والصين، وكوريا الجنوبية، فعلى سبيل المثال-لا الحصر- بدأت اليابان بتقليد المنتجات الأمريكية، فقامت مثلا بتفكيك قطار أمريكي بمجرد الحصول عليه وذلك لتقوم بتقليده وصناعة نسخ شبيهة منه، كما ورد في تقرير “الخلفية التاريخية لنقل التكنولوجيا والتغيير والتطور في اليابان” ل”تاكيشي هاياشي”، كمل اعتمدت شركة تويوتا على تقليد سيارات فورد التي كانت الأولى عالميا في ذلك الوقت.
والتقليد في الصناعة لا يعتبر منقصة بأي شكل من الأشكال، بل على العكس يجب النظر إليه على أنه تحدٍّ وخطوة استراتيجية في طريق النجاح، وكما يقال في المثل الإنجليزي “لا حاجة لإعادة اختراع العجلة”. وتبدو اليوم الفرصة سانحة أكثر مما كان في الماضي للقيام بالاستفادة من التكنولوجيا المستوردة أو ما يعرف أيضا باسم الهندسة العكسية، وذلك بسبب توفر وسائل الاتصال الحديثة، وسهولة الحصول على المعلومة، وتوفر الطابعات الثلاثية الأبعاد وغيرها من التقنيات.
المرحلة الثالثة: تحقيق الميزة التنافسية على منتجات الدول الأخرى.
إن عملية تحقيق ميزة تنافسية على المنتجات الأخرى التي في السوق هو صراع بقاء وما يهم المشترون بالدرجة الأولى هو جودة المنتج، ولقد فهم اليابانيون ذلك جيدا وأضافوا عليه مبدأ أو فلسفة “الكايزن”. ويعتمد تحقيق الميزة التنافسية في المنتج، حسب هذه الفلسفة، على التحسين المستمر والمتواصل وإن كان بخطوات صغيرة في مقابل الاعتماد على القفزات الابتكارية كما في الفلسفات الغربية، والتي يمكن أن تأتي ومن الممكن ألا تأتي.
ويعتبر دور المؤسسات البحثية في هذه المرحلة على درجة كبيرة من الأهمية في صناعة النهضة الصناعية. فيجب توجيه الأبحاث العلمية لحل المشكلات التقنية وتحقيق الميزة التنافسية للمنتجات المحلية، كما في أمريكا وألمانيا حيث كانت الأبحاث العلمية نابعة من مشكلات حقيقة لدى الشركات المصنعة في كلتا البلدين.
وتبرز هنا مشكلة يجب التنبيه عليها يقع فيها معظم الباحثين العرب، وهي الاستمرار في نفس مسارهم في البحث العلمي بعد انتهائهم من الدراسة وعودتهم الى بلادهم، بالتالي البقاء في دائرة تطوير منتجات الدول الأخرى!!
المرحلة الرابعة: دمج المنتجات الصغيرة لتصنيع منتجات أكثر تعقيداً.
هذه المرحلة تدريجية يجري فيها الانتقال من الصناعات الصغيرة والمتوسطة إلى الصناعات الكبيرة وذلك بفضل الخبرات التقنية والمنتجات الضرورية التي أصبحت الآن متوفرة محلياً، وتتجلى عملية الانتقال من الصناعات الصغيرة والمتوسطة إلى الصناعات الثقيلة بصورة واضحة في التجربة الصينية، حيث يقول الصينيون “إننا مثل التلميذ في الامتحان، من الأفضل أن يبدأ بإجابة الأسئلة السهلة ثم ينتقل للأصعب فالأصعب، بدلا من أن يبدأ بالأسئلة الصعبة فيتعثر فيها ويضيع وقته ويسلم ورقة إجابة الامتحان فارغة” (مجلة الثقافة العمالية)
إن الانتقال إلى الصناعات الكبيرة أو الثقيلة سوف يخلق حاجة إلى المزيد من المنتجات المحلية الأمر الذي سيعود إلى المرحلة الأولى (تحديد أو اختيار المنتجات ذات القيمة الاقتصادية العالية بالنسبة للدولة)، فيصبح هناك حركة مستمرة باتجاه نهضة صناعية، وعملية الوصول إلى الحدود التكنولوجية التي وصلت إليها الدول الصناعية المتقدمة مسألة وقت (الدورة)، وسيصبح لدينا القدرة على المبادرة والابتكار وإيجاد حدود جديدة تأخذنا إلى أعماق الصناعة ومجالاتها الفسيحة.
(الصناعة العربية، فراس)