«الصراحة!»

  • — السبت أكتوبر 07, 2023

الصراحة فيها الراحة والطمأنينة، وتعلِّم الصدق والأمانة، وتُبعد الإنسان عن الكذب والنفاق والمداهنة.

والصراحة التي تهدف للصالح العام، وتُنِير الأذهان، وتدعو للرشاد، هي صراحة بناءة، ذات قيمة حيوية، لا غنًى عنها لأي مجتمع متماسك؛ فهي توجِّه وتضيء الطريق، وتبتعد عن الأغراض الشخصية، والنعرات الضيقة، والضغينة المقيتة.

والصراحة في القول هي: قول الحقيقة كما هي، ورؤية الأمور على طبيعتها بعيدا عن المبالغة في إظهار الشيء وتضخيمه أو في ستره وكتمانه؛ وهذا المعنى قريب من معنى النصح، لأنّ من معاني النصح أو النصيحة في اللغة الشيء الخالص الذي لم يخالطه شيء، وهي: “تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضر، وضده الغش” وهذا المعنى هو ذاته معنى الصراحة.

وتعريف الشخص الصريح عند الأصوليين لا يخرج عن هذا المعنى ؛ إذ هو: “كل لفظ مكشوف المعنى والمراد، حقيقة كان أو مجازا، فيقال: فلان صرح بكذا أي أظهر ما في قلبه لغيره من محبوب أو مكروه”.

ولذلك نجد أن من تعاليم الإسلام، استواء الظاهر والباطن، واستقامة اللسان مع الجَنان، فلا يناقض الظاهر الباطن، وسريرة المؤمن أصلح وأفضل من علانيته؛ والصراحة خلق لا يجتمع مع النفاق.

لقد عاش نبينا محمد -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- حياة كلها وضوح وصراحة لا تعرف المجاملة ولا الخوف؛ في علاقاته -ﷺ- مع غيره وفي كلامه وأحكامه، ومن وضوحه وقوَّة حجته -ﷺ- أنه لما جاءت قُرَيْشٌ إِلَى عمه أبي طالب، فَقَالُوا: “يا أبا طالب! إِنَّ ابن أخيك يُؤْذِينَا في نادينا، وفي مسجدنا، فَانْهَهُ عن أذانا”، فقال أبُو طالب: يا عقيل!” ائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ” فذهبت فَأَتَيْتُهُ به، فقال:” يا ابن أخي! إِنَّ بَنِي عَمِّكَ يزعمون أنك تُؤْذِيهِمْ، فانته عن ذلك”، قَالَ عقيل: فَحَلَّقَ رسول الله -ﷺ- بصره إِلى السماء. فَقَالَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟» قَالُوا :”نَعَمْ”، قال :«ما أنا بأقدر على أَنْ أَدَعَ لكم ذلك من أن تُشْعِلُوا منها شُعْلَةً»، فقال أبُو طالب: “ما كذبنا ابن أخي. فارجعُوا”.

التصريح والتلميح:

كان من خلق النبي -ﷺ- أنه لا يصرح بالأسماء أحياناً إذا لم تكن هناك حاجة فلا داعي للتعيين؛ بمعنى إذا كان التلميح يُفهم وكان المقصد أنْ ينتفع الناس فلا حاجة للتخصيص والتشهير، فإنه أذى، فكثيرا ما كان يقول -ﷺ-: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا، لَيْسَت فِي كِتَابِ اللَّهِ» أو قوله-ﷺ-:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ»، و «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً».

فذات الشخص أو الأشخاص هنا ليست معنية؛ فالمسألة ليست تحاكما بين طرفين، وليس فيها ادِّعاء أو شكاية من طرف على طرف آخر، بل المقصود البيان، فإن ذلك أدعى إلى قبول الصراحة، والانتفاع بالنصح والإرشاد.

فما أسس فهم الصراحة والباعث عليها؟

عندما نتأمل الصراحة من جميع جوانبها نجد أنَّها ليست مستحبة دائما على إطلاقها فقد لا تكون هناك حاجة للتصريح، بل ولا للتلميح، كمن يريد الحديث عن شيء لا يعنيه، وقد يكون هناك احتياج للحديث في مسألة من المسائل ولكنَّ الإيماء كافٍ كما لو كان الحديث بين أشخاصٍ فهموا على المتكلم ولم يترتب على التصريح حكمٌ قضائي.

ونجد أن للصراحة والباعث عليها أسسا عدة، منها:

١- مراقبة الإنسان لربه، وهذه المراقبة لا تكتمل ما لم يشعر المرء أنه عبد لله تعالى، وبذلك يكون كلامه تصريحا أو تلميحا أو سكوتا متماشيا مع المصلحة المتوخاة من ذلك.

٢- جلب المصلحة سواء أكانت شخصية أو غيرية، فإذا تجلّت المصلحة من المصارحة فإنَّ الصراحة تكون هي الأولى للوصول إلى الحق، وكلُّ ذلك مرهون بعدم التنازل عن الحق الشخصي أو حقَّ الآخرين، مع ملاحظة أنَّ حقَّ الآخرين من النصح لا يمكن التنازل عنه لأنه متعلق بالآخرين؛ وقد تكون المصلحة مرتبطة بجلب النفع للآخرين ودفع الضرر عنهم، والشريعة قامت على جلب المصالح ودفع المفاسد، ولأجل هذا أبيحت الصراحة، ولا يَعُد الحديث عن الآخرين غيبة؛ فقد سمع النبي -ﷺ- لهند زوج ابا سفيان عندما ذكرته بشرٍّ وهو الشح، والمستثنيات من الغيبة كلها فيها صراحة لكنها تحقِّق مصلحة شخصية أو غيرية أو شرعية كجرح الرواة وذكْر كذبهم.

٣- مراعاة آداب المروءة والحشمة والبعد عن الفحشُ وبذاءةُ اللسان في المصارحة، فأحيانا يكون الاستغناء عن الصراحة بالتلميح، أو يكتفى باختيار ألفاظٍ أبعد عن الفُحش.

٤- الصَّراحة لا تصدر إلا من نفوس كبيرة، فليس الخطأ أن تكون صريحا وتعترف بالخطأ، فالاعتراف بالخطأ فضيلة ولا يحصل عادة من النفوس الضعيفة المهزومة، وإذا كانت الصراحة مطلوبة وفق المصلحة فلا ينبغي الخلط بينها وبين المدارة والمداهنة؛ فالصراحة أنْ نكون واضحين في كلامنا وأفعالنا من غير مجاملة ولكنْ بطريقة مهذبة ومن غير وقاحة ، فهي تدلُّ على المحبة أو النصيحة وتخرج من قلب سليم نظيف اتِّجاه الآخرين، والصراحة محبوبة وممدوحة، أمَّا المدارة فهي المجاملة والسكوت عن بعض الأشياء طمعا في الاقتراب من الشخص أو مراعاة لمصلحة ما له، فليس في المداراة موافقة له، بل فيها السكوت الظاهري والموافقة الظاهرية طمعا في مصلحة أكبر منها؛ فالطمع بصلاح شخص مقابل اللين في الكلام أمر مطلوب، وكذا إذا كنَّا نخشى شر شخص ما فيمكن أنْ نداريه اتِّقاءً لشره.

الخلاصة

يمكن القول إن الصراحة خُلُقٌ عالٍ أصيل، وهي من الأخلاق الطيبة، والموقف الشرعي هو الذي يتحكم في الإنسان المسلم؛ فقد يكون التكلم بالتصريح فُحشا، وقد يكون السكوت أو الإيماء تعمية للأمر أو نفاقا، وإذا كانت الصراحة مطلوبة فلنحذر من المداهنة التي هي خلق ذميم، كما لا ينبغي أنْ تجرَّ الصراحة إلى الوقاحة، فالوقاحة مرتبطة بقلة الحياء وبغلظة اللفظ وفظاظته وجلافته، بينما الصراحة هي الوضوح والحامل لها محبة الخير وليس الإهانة والتقريع والتشفي، ولنا في تجلية هذا الأمر من القرآن الكريم والسنة النبوية وتعاملات الصحابة رضوان الله عليهم منهجا نستند عليه.

إذا حلَّت الصراحة في أي مجتمع كان متماسكا كالجسد الواحد، فلا تظهر علامات النفاق، ولا ترى البغضاء انتشرت أوصالها بين الناس، وكثر التنافر والتناحر وظهر التفكك وضَرَبَ بجذوره في العلاقات الإنسانية.

فهل نَتَبنَّى نَهْج الصَّراحة والْوضوح فِي كُلِّ تعاملاتنَا ، ونحْتَرم ونقدِّر الصَّريحين النَّاصحين؟

اللهم حقق الآمال!