«إدارة المدن الكبرى»

  • — الخميس سبتمبر 28, 2023

حظي مفهوم الإدارة الموحدة للمدن (الإدارة المحلية) على اهتمام متزايد في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء منذ النصف الثاني من القرن العشرين كنتيجة طبيعية لمتغيرات ثقافية واجتماعية وسياسية إلى جانب المتغيرات التقنية والعلمية والتوسع العمراني والتزايد السكاني، والرتم السريع لطبيعة الحياة والرغبة المتزايدة لتوسيع قاعدة المشاركة المجتمعية.

وتعد التنمية المحلية جزءا مهما ومحوريا في التنمية الوطنية الشاملة، وتؤكد أدبيات توحيد الإدارة في المدن على أنها صورة من صور اللامركزية الإدارية الإقليمية التي تمنح الهيئات المحلية استقلالية تمكنها من ممارسة شخصيتها الاعتبارية المتمثلة في إدارة الاختصاصات التي تباشر في المدينة؛ وقد حققت الإدارة المحلية الكثير من النجاحات والإنجازات، سواء على المستوى المحلي أو الوطني.

إذاً ما هو النموذج المعياري في إدارة المدن الكبرى؟

من خلال دراسة مرجعية (معيارية) لعدد من نماذج إدارة المدن الكبرى حول العالم وجد أن جوهر إدارة المدنية يكمن في توحيد الجهود التخطيطية والتنفيذية وتنظيمها وحوكمتها، مع استقلالية (إدارية ومالية) وصرامة في المتابعة والمحاسبة والتقويم لتحقيق الأثار المرجوة؛ التي تعزز التنمية الشاملة على المستوى المحلي والوطني. ووجد أن هناك خمسة أبعاد رئيسية (اللامركزية الإدارية، اللامركزية المالية، التنوع والتناسق، حوكمة متعددة المستويات، الهيكل التنظيميوفيما يلي توضيح مختصر لكلُ منها:

البعد الأول: اللامركزية الإدارية

المركزية واللامركزية الإدارية معيارين مهمين في تقييم مدى تطبيق مفهوم توحيد إدارة المدن؛ ففي الوقت الذي تعني فيه المركزية تركيز الصلاحيات في السلطة المركزية وبالتالي يتعين على ممثلي السلطة المركزية في المناطق الرجوع للإدارة المركزية في كل صغيرة وكبيرة، بينما تمثل اللامركزية تفويض السلطات والصلاحيات للإدارة المحلية لتمارس دورها التنفيذي والتشغيلي في إطار إشراف ومتابعة من السلطة المركزية، مع أهمية مراجعة الجانب التشريعي (التنظيم والسياسات) بحيث لا يكون هناك تداخل وتضارب في المصالح تعيق مدير المدينة من القيام بمهامه بالشكل السليم.

البعد الثاني : اللامركزية المالية

وجد أن بعض الحكومات المركزية تتخلى تدريجيا عن منطق مركزية الموارد المالية وإعادة توزيع الموارد على نحو  محض، من أجل توفير تمويل إضافي ومزيد من الخدمات، والمزيد من القدرات المالية الممنوحة للسلطات الإقليمية، ويؤدي إلى تحفيز القدرة على المنافسة وتعزيز قدرة المدن على قياس أدائها الاقتصادي، والإسهام في ذات الوقت بتحسين أداء الدولة على المستوى الوطني.

البعد الثالث :  التنوع والتناسق

التنوع في الثقافات والموارد المحلية يمكن أن يمهد الطريق لنماذج إنمائية مختلفة وبناءه؛ فكثير من الدول تشجع الخصوصيات (التاريخية أو الثقافية)، وتساعدها في مجابهة الصعوبات الهيكلية في إدارة مدنها (مناطق، أقاليم، مقاطعات)، ويحفز هذا التوجه الى تنافسية المدن في المجالات التي تملك فيها ميز تنافسية.

البعد الرابع : حوكمة متعددة المستويات

الحوكمة تهدف الى اختصار “تعدد” مستويات اتخاذ القرار (كل ما قل عدد المستويات كان أفضل) ويستند هذا البعد على فكرة أن كفاءات ومسؤوليات الحكومة يجب أن توزع عموديًا ولا يمكن تخصيصها بشكل صارم على مستوى واحد وفقًا للتقسيمات الأفقية، وهناك نموذجين؛ الأول ينطوي على نموذج تنازلي في التخطيط المركزي الذي تتحكم فيه الدولة، والآخر تصاعدي يهدف إلى تمكين الإدارة المحلية (مدير المدينة) للقيام بأعماله في إدارة المدينة؛ الأمر الذي يستدعي مشاركة جميع المستويات الإدارية في المعلومات (البيانات) والتنسيق والتعاون بشكل كامل فيما بينها، بحيث تقيم العلاقات الأفقية بشكل علني (شفاف) ومسؤول مع أصحاب المصلحة المعنيين.

إن تحول نموذج الحوكمة متعدد المستويات من تعزيز نظام للتدخل المركزي، لا سيما في الأنشطة الاقتصادية والتنمية الإقليمية أو الابتكار الإقليمي أو “مناطق التعلم”، يؤدي إلى تعزيز التدابير اللامركزية التي لا تقوم فقط على تخفيف العبء عن المؤسسات المركزية بل بوصفها سمة من سمات الحكم الرشيد.

البعد الخامس: التراتبية التنظيمية

وجد أن اتباع هيكلة تنظيمية مؤلفة من ثلاث مستويات لدعم اللامركزية من أفضل الممارسات في إدارة المدن الكبرى من خلال الارتباط الوثيق بين الذراع التنفيذي و الذراع الاستراتيجي، والصلاحيات المكتسبة من هذا الارتباط، والاستقلالية المالية والإدارية، ويربطها بما يحدث على المستوى المحلي؛ ويتجاوز إجراءات وخطوات “البيروقراطية” الكثيرة المُبعثرة للعمل، والمشتتة للجهود؛ بسبب تنوع الأنظمة واللوائح وتعدد آليات اتخاذ القرارات وتعدد الشركاء وتباين الرغبات والتطلعات (المادية وغير المادية)، ولذلك نجد أن النماذج الناجحة في إدارة المدن هي التي يرتبط الذراع التنفيذي والتشغيلي الأساسي لإدارة وتطوير المدينة (مدير المدينة) مباشرة بالذراع الاستراتيجي (مركز صنع القرار المحلي؛ مجلس محلي، هيئة محلية) كي يحقق فوائد هيكلية تزيل معوقات العمل والازدواجية والتعارض بين الأجهزة؛ وذلك عبر شبكة من أصحاب المصلحة والشركاء المحليين المرتبطين بإدارة المدينة والسكان، ويوضح الشكل التالي إطار التراتبية التنظيمية:

الخلاصة.. معيار نجاح أي إدارة موحدة للمدن مبني على “تكاملية الهدف”؛ لتحقيق المصلحة العامة والأثر الاقتصادي والاجتماعي والتميز المؤسسي، ويعتبر عاملاً حاسماً في تطوير المدن الذي من شأنه العمل بشكل “تكاملي لزيادة الفاعلية والتأثير ، وجعل العاملين في المدينة أكثر وضوح، وأكثر استجابة لمتطلبات ورغبات عموم السكان، والقيام بالدور التنموي على الصعيد المحلي والكفاية الاقتصادية والرفاهية المجتمعية المرتبطة بالرؤية التنموية الشاملة على الصعيد الوطني.

والله من وراء القصد.