«الاقتصاد العالمي يترنح؟!»

  • — الأحد أكتوبر 01, 2023

نشر موقع Project Syndicate مقالة تحت عنوان “الانهيار المُحَتَّم The Unavoidable Crashللكاتب “نورييل روبينى” تناول فيه أسباب الأزمات الاقتصادية التى يشهدها العالم حاليا، وتأثيرها على الأسر والمؤسسات والحكومات، مشيرا إلى أن التزامن بين ظهور الركود التضخمي والأزمات الاقتصادية الحالية سيؤدى في نهاية المطاف إلى حتمية انهيار الاقتصاد العالمي الذي يترنح الآن ومتجها نحو حشد -غير مسبوق- من الأزمات المالية وأزمات الديون، في أعقاب انفجار العجوزات والاقتراض والإنفاق بالاستدانة (الروافع المالية) في العقود الأخيرة.

في القطاع الخاص، يشمل جبل الديون المستحقة على الأسر والأفراد (مثل قروض الرهن العقاري، وبطاقات الائتمان، وقروض السيارات، وقروض الطلاب، والقروض الشخصية)، والمستحقة على الأعمال التجارية والشركات (كالقروض المصرفية، وديون السندات، والديون الخاصة)، وديون القطاع المالي (الخصومات المستحقة على المؤسسات المصرفية وغير المصرفية).

أما القطاع العام، فليس بأحسن حالا حيث يشمل جبل الديون سندات الحكومات المركزية والإقليمية والمحلية وغير ذلك من الالتزامات الرسمية، فضلا عن الديون الضمنية مثل الالتزامات غير الممولة من خطط معاشات التقاعد المدفوعة أولا بأول وأنظمة الرعاية الصحية ــ وكل هذا سيستمر في النمو مع تزايد الشيخوخة السكانية.

بمجرد إلقاء نظرة على الديون الصريحة على المستوى العالمي نجد أن الأرقام مذهلة ومفجعة:

ارتفع إجمالي ديون القطاعين العام والخاص كحصة من الناتج المحلي الإجمالي من 200% في عام 1999 إلى 350% في عام 2021،
والآن أصبحت النسبة 420% في مختلف الاقتصادات المتقدمة، ونحو 330% في الصين، وفي الولايات المتحدة، بلغت النسبة 420%، وهذا أعلى مما كانت عليه أثناء فترة الكساد العظيم وبعد الحرب العالمية الثانية.

من الممكن أن يعمل الدين على تعزيز النشاط الاقتصادي إذا استثمر المقترضون في رأس المال الجديد (الآلات، والمساكن، والبنية الأساسية العامة) التي تحقق عوائد أعلى من تكلفة الاقتراض، لكن قدرا كبيرا من الاقتراض يذهب ببساطة لتمويل الإنفاق الاستهلاكي الذي يزيد على دخل الفرد على أساس مستمر ــ وهذه وصفة للإفلاس!!!

علاوة على ذلك، قد يكون الاستثمار في “رأس المال” محفوفا بالمخاطر أيضا، سواء كان المقترض أسرة تشتري مسكنا بسعر مبالغ فيه وبشكل مصطنع، أو شركة تسعى إلى التوسع بسرعة أكبر مما ينبغي بصرف النظر عن العائد، أو حكومة تنفق المال على “أفيال بيضاء” (مشاريع بنية أساسية مُـسرِفة لكنها غير مجدية ولا نفع يعود منها).

كان هذا الاقتراض المفرط متواصلا لعقود من الزمن، ولأسباب متنوعة؛ وقد سمح إضفاء الطابع “الديمقراطي” على التمويل للأسر [اشترِ ثم سدد لاحقاً] التي تعاني من ضائقة مالية بتمويل الاستهلاك بالاستدانة؟!

كما دأبت حكومات على خفض الضرائب دون خفض الإنفاق أيضا، في حين أنفقت حكومات أخرى بسخاء على البرامج الاجتماعية غير الممولة بالكامل من خلال فرض ضرائب أعلى بالقدر الكافي.

لقد عملت السياسات الضريبية التي تفضل الديون على الأسهم، والتي تدعمها سياسات نقدية وائتمانية مفرطة في التساهل من جانب البنوك المركزية، على تغذية ارتفاع شديد في الاقتراض في كل من القطاعين العام والخاص.

كما ساعدت سنوات من التيسير الكمي والتيسير الائتماني في الإبقاء على تكاليف الاقتراض قريبة من الصِفر، وفي بعض الحالات كانت حتى سلبية (كما كانت الحال في أوروبا واليابان، حتى وقت قريب).

ولكن بحلول عام 2020، بلغ الدين العام ذو العائد السلبي المكافئ للدولار 17 تريليون دولار، وفي بعض بلدان الشمال، كانت أسعار الفائدة الاسمية حتى على قروض الرهن العقاري سلبية.

لقد كان انفجار نسب الديون غير المستدامة على هذا النحو يعني ضمنا أن العديد من المقترضين ــ الأسر، والشركات، والبنوك، وبنوك الظِـل، والحكومات، وحتى بلدان بأسرها ــ تحولوا إلى “كائنات حية ميتة” ومفلسة تدعمها أسعار فائدة منخفضة (الأمر الذي أبقى على تكاليف خدمة ديونها تحت السيطرة).

أثناء كل من الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، وأزمة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، أُنقِذَ العديد من الوكلاء المعسرين الذين كان مصيرهم الإفلاس بفضل سياسات أسعار الفائدة الصِفرية أو السلبية، والتيسير الكمي، وعمليات الإنقاذ المالي الصريحة؛ ولكن الآن، أدى التضخم ــ الذي تغذى على ذات السياسات المالية والنقدية والائتمانية المفرطة في التساهل ــ إلى إنهاء فجر الموتى المالي ذاك؛ فمع اضطرار البنوك المركزية إلى زيادة أسعار الفائدة في محاولة لاستعادة استقرار الأسعار، تعاني الكيانات الحية الميتة من زيادات حادة في تكاليف خدمة الديون.

يمثل هذا الأمر نكسة ثلاثية، لأن التضخم يؤدي أيضا إلى تآكل دخل الأسر الحقيقي وتقليل قيمة أصولها مثل المساكن والأسهم، وينطبق الأمر ذاته على الشركات، والمؤسسات المالية، والحكومات الهشة المفرطة في الاستدانة: فهي تواجه زيادة حادة في تكاليف الاقتراض، وهبوط الدخل والإيرادات، وانخفاض قيمة الأصول، وكل هذا في وقت واحد.

لكن أسوأ ما في هذه التحولات هو تزامنها مع عودة الركود التضخمي (التضخم المرتفع المصحوب بنمو ضعيف) وكانت آخر مرة تشهد فيها الاقتصادات المتقدمة مثل هذه الظروف في سبعينيات القرن العشرين؛ لكن كانت نسب الديون على الأقل منخفضة للغاية.

أما اليوم فنحن نواجه أسوأ جوانب السبعينيات (صدمات الركود التضخمي) إلى جانب أسوأ جوانب الأزمة المالية العالمية، وهذه المرة، لا يمكننا ببساطة خفض أسعار الفائدة لتحفيز الطلب.

في نهاية المطاف، يتلقى الاقتصاد العالمي ضربة قوية بسبب صدمات العرض السلبية المستمرة في الأمدين القريب والمتوسط والتي تعمل على تقليص النمو وزيادة الأسعار وتكاليف الإنتاج؛ وتشمل هذه الصدمات الارتباكات التي أحدثتها الجائحة في المعروض من العمالة والسلع؛ وتأثير الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا على أسعار السلع الأساسية؛ وسياسة خفض الإصابات بكوفيد-19 إلى الصِفر الكارثية؛ وعشرات من صدمات الأمد المتوسط ــ من تغير المناخ إلى التطورات الجيوسياسية ــ التي ستخلق المزيد من ضغوط الركود التضخمي.

وعلى العكس من أزمة 2008 المالية، والأشهر الأولى من جائحة كوفيد-19، فإن إنقاذ القطاعين الخاص والعام بالاستعانة بسياسات متساهلة من شأنه أن يصب المزيد من الزيت على حريق التضخم؛ وهو يعني أننا سنشهد هبوطا اضطراريا حادا ــ ركود عميق طويل الأمد ــ علاوة على أزمة مالية حادة مع انفجار فقاعات الأصول، وارتفاعات نسب خدمة الديون، وانخفاض الدخول المعدلة حسب التضخم بين الأسر والشركات والحكومات، وسوف تتغذى كل من الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي على بعضهما بعضا.

أما الاقتصادات التي تقترض بعملاتها الخاصة يمكنها استخدام نوبة التضخم غير المتوقعة لخفض القيمة الحقيقية لبعض الديون الاسمية طويلة الأجل ذات السعر الثابت؛ ومع إحجام الحكومات عن زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق لتقليل عجزها، سَيُنظَر مرة أخرى إلى تسييل العجز من جانب البنوك المركزية باعتباره المسار الأقل عرضة للمقاومة، لكنك لا تستطيع خداع كل الناس طوال الوقت، بمجرد خروج جني التضخم من القمقم ــ وهو ما سيحدث حتما عندما تهجر البنوك المركزية الكفاح في مواجهة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يلوح في الأفق ــ سوف ترتفع تكاليف الاقتراض الاسمية والحقيقية بشدة؛ والواقع إن أكبر أزمات الديون المصحوبة بالركود التضخمي ربما يمكن تأجيلها، ولكن لا يمكن تفاديها [.]