نبعت فكرة إنشاء بيوت الخبرة من التوجهات الحديثة لمعظم دول العالم، حيث تعتبر بيوت الخبرة من الأدوات الحديثة التي تنظر إليها المؤسسات الحكومية والخاصة في لتطوير وتحسين بيئة الأعمال من خلال استثمار الكفاءات الوطنية من ذوي الاختصاص التي ساهمت وتساهم في بناء الدولة والقادرة على العطاء عبر كياناتها الحالية، وتحقيق الأثر-خاصة الاجتماعي والاقتصادي.
بيت الخبرة كيان متخصص قد يُؤسس من عضو أو مجموعة أعضاء يمارس من خلاله تخصص ما، أو عدة تخصصات متقاربة أو تكاملية، ويقدم دراسات استشارية استشرافية معززة بحلول هادفة من واقع تراكم الخبرات المعرفية ، أو من دراسات أكاديمية أو بحثية ابتكارية في مسارات الأعمال المختلفة؛ حيث تُعد بيوت الخبرة -على مختلف مسمياتها ومستوياتها الرسمية والخاصة- مخازن للخبرات المعلومات يستفاد منها في خدمة أركان التنمية المستدامة.
إن عدم الثقة في بيوت الخبرة المحلية والنظرة السلبية لكوادرها الوطنية وراء عدم استعانة الكثير من الشركات والمؤسسات بالقطاعين العام والخاص، فضلاً على تغييب القدوة لدى جيل الشباب الحالي وفي المستقبل، والاستمرار في دوامة تفضيل بيوت الخبرة الأجنبية بتطبيقاتها المنسوخة ومعاييرها المعاد تدويرها مع الفارق الزماني والمكاني؛ فتؤثر على المدى الطويل سلباً على الممارسات الإدارية الجيدة بالتبعية المهنية المستوردة [1]، التي تستمر في البحث عن المزيد من الأفكار والنصائح، والمزيد من الاستشاريين الأجانب لحل المشكلات التي ربما هي من أوجدتها ابتداءاً!؟[2]
توطين الخدمات الاستشارية
إن بيت الخبرة الوطني هو الأقدر على المحافظة على الهوية الوطنية والاستدامة لارتبط وجدان كوادرها بالوطن، وتفاعلت مع نهضته التي بدأها المؤسس “طيب الله ثراه” وما أولاها من بعده اهتمامهم جميع الملوك “طيب الله ثراهم”، وما تَوَّجَ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -أيدهم الله- برؤية المملكة 2030.
إن رصد الكفاءات المحلية يتطلب زيادة التفاعل مع القائمين والمختصين بمجالس البحث العلمي ومراكز الدراسات في الجامعات لبيان آلية الاستفادة من خبراتها التخصصية التراكمية، للوصول إلى توطين الخدمات الاستشارية التي يمكن أن تعتمد عليها الدولة في كافة القطاعات والمجالات، وينعكس إيجاب على أداء الكثير من المؤسسات الحكومية والخاصة؛ فعزوف الخبرات الوطنية عن بيوت الخبرة المحلية سيؤثر بصورة مباشرة على الهوية والاستمرارية مما سيؤثر سلب على توطين هذا القطاع المهم الذي يعول عليه بأن يكون شريك فعال في بناء المعرفة بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ ومن المعول عليه في ذلك ثلاثة أمور : الأول، أن يقوم الكادر المحلي بالتقديم لنفسه ولمؤسسته كبيت من بيوت الخبرة الوطنية ، والثاني، أن تقوم مراكز البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية بتأسيس قاعدة بيانات كونها جهة الاختصاص الأصلية، والثالث، إدارة وتقاسم المعرفة[3].
شراكة وطنية مستدامة
مما لا شك فيه أن الدولة -حفظها الله- لديها الكثير من الكوادر المتخصصة والكفاءات المتميزة في كافة المجالات، الأمر الذي يتطلب العمل على تعزيز وترسيخ ثقافة الاستعانة بها، وإثبات ذاتها من خلال شراكة استراتيجية مستدامة؛ شراكة تليق بأبناء الوطن تكون بين قطاعات الدولة وبيوت الخبرة المحلية (عامة وخاصة) توفر لهم فرص العطاء من خلال إسناد الأعمال الاستشارية لهم -عوضاً عن منحها بيوت الخبرة الأجنبية التي تستفيد غالباً من الخبرات الوطنية وأصبح الكثير منها ربحياً احتكارياً، مقامها مقام التباهي- وإن كان هناك حاجة للخبرات الأجنبية فليكن استجلابها عن طريق بيوت الخبرة الوطنية في الجزيئات التي قد لا تتوفر لديها، على شرط نقل المعرفة، وبذلك نكون وضعناهم على خريطة نماء الوطن وتطوره كعنصر وطني فاعل بشراكة وطنية مستدامة يقف فيها الجميع صفا واحدا بما أوتينا من إمكانات وقدرات ومعرفة وخبرات في خدمة الوطن!
تجربة عملية
أختم بتجربة كانت في عام 2011 عندما كان سمو الأمير الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عياف (وفقه الله)، أميناً لأمانة منطقة الرياض (1997-2012)، حيث كان سموه ذو نظرة شمولية بعيدة المدى اكتسباها من تجربته الأكاديمية والعملية؛ فوجه بإعداد خطة استراتيجية طويلة المدى لتطوير الأمانة وتحسين خدماتها، والاستعانة بأحد بيوت الخبرة المحلية (معهد الملك عبدالله للبحوث والدراسات الاستشارية بجامعة الملك سعود) والاستفادة من الكفاءات الوطنية من الجامعة وخارجها، وهو ما تحقق بفضل الله، فقد امتاز العمل بارتكازه على منهجيات مهنية علمية، ومبادئ مرتبطة بثقافة التخطيط الإستراتيجي، وقابلية القياس بمؤشرات أداء يحتكم إليها المسؤول والمستفيد، وواقعية امتزجت بالخبرات الوطنية (العلمية والعملية) والتجاوب مع التحديث والتطوير، ووفق ما ينسجم مع طبيعة عمل الأمانة؛ فكانت «استراتيجية أمانة منطقة الرياض .. رياض الإنسان والمكان»؛ دراسة متكاملة وشاملة ومرجعية من خلال 7 أهداف استراتيجية و (93) مبادرة؛ ركزت على صنع القرار البلدي بطريقة لا مركزية، وعلى الاستقلال المالي والإداري للأمانة، ومشاركة المواطنين في الخدمة وتقييمها، وعلى درجة رضا المستفيدين من الخدمات التي تقدم لهم (التمحور حول المستفيد)؛ وكان من الخطوط المحورية للاستراتيجية هي البناء التنظيمي والمؤسسي، وتنويع الموارد المالية، والبنية التقنية للأمانة، والشراكة مع القطاع الخاص، وتطوير رأس المال البشري، والعلاقة التكاملية مع الجهات الحكومية ومرجعاً يشار إليه في الإدارة المحلية، والمساهمة الفاعلة للأمانة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لسكان منطقة الرياض، وأزعم -فيما أعلم وأطلعت عليه- أنه لم يصدر أفضل منها (أو مثلها) حتى الآن؛ وقد أضحت مرجعاً مهما لكل ما جاء من دراسات قامت بها المكاتب الاستشارية الأجنبية لتطوير وتحسين العمل البلدي!
اللهم حقق الآمال!