ماتت “الرأسمالية” وحلت “التقنية الإقطاعية” و “رأس مالها السحابي”!!!

  • — الأربعاء يوليو 31, 2024

“البارونات الجدد” والتقنية الإقطاعية تحولنا إلى عبيد لرأس المال السحابي.

يقول “يانيس فاروفاكيس” الخبير الاقتصادي، ووزير المالية اليوناني السابق وعضو البرلمان اليوناني : سمعت عالم الاقتصاد “فريدريك فون هايك” يقوم بهجوم عنيف على التخطيط الاشتراكي بحكاية شخصية ساحرة. قال مازحاً: “في أحد الأيام، دخلت إلى متجر. وخرجت ومعي شيء لم أكن أعرف من قبل أنني أريده! ” ومثله كمثل كل المدافعين “الأذكياء” عن الرأسمالية، كان “هايك” يعد السوق خيراً محض لا يستطيع أي نظام من صنع الإنسان أن يكرر وظيفته. كانت وجهة نظر هايك هي أننا أنفسنا، لا نعرف ما نريد حتى ندخل السوق، فكيف يمكن لمسؤول حكومي، أو أي شخص آخر، أن يعرف ما يريده المجتمع؟

إن أمثال “فون هايك” يجاهلون الاقتصاديين الذين يحتفون بالسوق باعتبارها مجرد آلية فعّالة لإيجاد السعر الصحيح للأشياء؛ فهم يرونها شيئاً أعظم، ومحرراً لخيالنا، ومشاركاً في خلق تفضيلاتنا وأذواقنا. ويزعمون أن التدخل في الأسواق، ناهيك من استبدالها، فكرة رهيبة لأن “الأنظمة المركزية” معادية ليس فقط للكفاءة، بل وأيضاً للتطور الحر لميولنا.

ولكن ماذا لو لم تعد تفضيلاتنا تشكلها الأسوق، كما كانت في أيام “هايك”؟

في العام الذي تلا وفاة “هيك”، كنت أكافح لربط حاسوب والدي بالإنترنت الوليدة عندما سألني سؤالاً قاتلاً: “الآن بعد أن تتحدث أجهزة الكمبيوتر مع بعضها البعض، هل ستجعل هذه الشبكة الرأسمالية مستحيل الإطاحة بها؟ أم أنها قد تكشف -أخيراً- عن نقطة ضعفها؟ “

لقد كان ذلك بعد عامين من انهيار الشيوعية السوفييتية، وأيضاً بداية انحدار يسار الوسط، ودخل التهديد الذي تشكله الطبقة العاملة المنظمة للرأسمالية في حالة ركود لم تنته بعد.

فهل يمكن للشبكة العنكبوتية “الإنترنت” أن تفعل بالرأسمالية ما فشلت “البروليتاريا” في فعله؟

لقد استغرق الأمر سنوات للإجابة على سؤال والدي – في شكل كتابي الجديد، “الإقطاع التكنولوجي: قتل الرأسمالية”. في هذا الكتاب، أزعم أن تفضيلاتنا لم تعد تتشكل من خلال الأسواق، بل من خلال شبكات الأجهزة الحاسوبية – ما أسميه “رأس المال السحابي”.

على سبيل المثال، يعد “أليكسا Alexa” التابع لشركة “أمازون” البوابة إلى نظام شمولي مركزي بالكامل الذي يخلق تفضيلاتنا وإشباعها، وذلك عبر :

أولاً، يدربنا على إملاء ما نريده.

ثانيًا، يبيعنا ما “نريده” الآن مباشرة، متجاوزًا أي سوق فعلي.

ثالثًا، ينجح في جعلنا ندعم آلة تعديل السلوك الضخمة بعملنا “المجاني” لحسابهم؛ ننشر المراجعات ونقيم المنتجات.

وأخيرًا، يجمع ريعًا هائلاً من الرأسماليين الذين يعتمدون على شبكة رأس المال السحابي، وعادة ما تكون 40٪ من سعر البيع!!!

هذه ليست الرأسمالية؛ مرحبا بكم في الإقطاع التكنولوجي، وشبكة رأس المال السحابي.

إن خوف البشرية من إبداعاتها التكنولوجية قديم: وكانت تعرض في الأفلام مثل “المدمر” و “الماتريكس” مدفوعة بنفس القلق الذي حرك قصة “فرانكشتاين” وقصة “باندورا لهسيود”، حيث كانت “روبوتاً” صنعه “هيفايستوس” لمعاقبتنا على جريمة “بروميثيوس”؛ فكل هذه القصص لها نقطة تفرد: هي اللحظة التي نجعل فيها الآلة (الروبوت)، أو شبكة من الروبوتات – نحن صانعيها- تصل إلى وعينا، وتُلقي نظرة واحدة علينا، وتقرر أننا لسنا مناسبين للغرض، قبل أن تشرع في استئصالنا أو استعبادنا ــ أو مجرد جعلنا بائسين.

ولكن بينما نستمتع بمثل هذه القصص، فإننا نتجاهل خطرًا حقيقيًا للغاية؛ فمثل “أليكسا” وبرمجيات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي مثل “تشات جي بي تي” بعيدة كل البعد عن نقطة التفرد المرعبة؛ يمكنها أن تتظاهر بأنها واعية، ولكنها ليست كذلك!!!

ومع ذلك، لا يهم على الإطلاق أنها ملحقات عديمة العقل لشبكة تحليل البيانات التي تحاكي الذكاء فقط. ولا يهم أيضًا أن مبتكريها ربما كانوا مدفوعين بالفضول والسعي إلى الربح، وليس خطة شيطانية لإخضاع البشرية.

ما يهم هو أنها تمارس سلطة على ما نفعله – نيابة عن مجموعة صغيرة من البشر يشكل نسخة من التفرد، وإن كان في شكل أبسط، حيث أنه اللحظة التي يصبح فيها شيء اخترعناه “نحن” مستقلاً عنا وأكثر قوة منا، فيخضعنا لسيطرته.

والواقع أننا منذ الثورة الصناعية الأصلية، وحتى يومنا هذا، وهبنا الآلات “حياة خاصة بها”؛ فمن المحركات البخارية إلى محركات البحث، تجعلنا نشعر، وكأننا “الساحر الذي لم يعد قادراً على السيطرة على العفاريت التي استدعاها بتعاويذه”.

منصات التداول الرقمية والريع السحابي

تكمن المفارقة في أن الشيء الذي قتل الرأسمالية هو رأس المال نفسه؛ فليس رأس المال كما عرفناه منذ فجر العصر الصناعي، بل شكل جديد من أشكال رأس المال، وهو طفرة منه نشأت في العقدين الماضيين، وهي أقوى كثيراً من سابقتها، لدرجة أنها، مثل فيروس مفرط الحماس، قتلت مضيفها.

لقد أدت هذه الطفرة ــ رأس المال السحابي ــ إلى هدم ركيزتي الرأسمالية: الأسواق والأرباح.

بطبيعة الحال، لا يزال هذان الأمران (الأسواق والأرباح) موجودين في كل مكان ــ كانا موجودين في كل مكان في ظل الإقطاع أيضا ــ، ولكنهما طُردا من مركز نظامنا الاقتصادي والاجتماعي، ودفعا إلى هامشه، وحلت منصات التداول الرقمية محل الأسواق، وأصبحت تبدو، وكأنها أسواق، ولكنها ليست كذلك، بل عبارة عن نموذج من الإقطاعيات.  كذلك حل محل الربح، محرك الرأسمالية، سلفه الإقطاعي: الريع؛ وعلى وجه التحديد، شكل جديد من أشكال الريع الذي يجب دفعه للوصول إلى تلك المنصات، وإلى السحابة على نطاق أوسع: الريع السحابي.

ونتيجة لذلك، فإن القوة الحقيقية اليوم لا تكمن في أيدي أصحاب رأس المال التقليدي ــ الآلات والمباني وشبكات السكك الحديدية والهاتف والروبوتات الصناعية. ويواصلون استخراج الأرباح من العمال، ومن أجور العمل، لكنهم ليسوا مسؤولين كما كانوا ذات يوماً، وأصبحوا تابعين لفئة جديدة من السادة الإقطاعيين، أصحاب رأس المال السحابي. أما بالنسبة إلى بقية الناس، فقد عدنا إلى وضعنا السابق كأقنان، نسهم في ثروة وقوة الطبقة الجديدة بعملنا غير مدفوع الأجر – بالإضافة إلى العمل الذي نقوم به عندما نحصل على الفرصة.

في عالم تقني إقطاعي، يصبح التحرر من العتق الآن عملاً مستحيلاً× فقد أصبح البشر متشابكين في شبكة من رأس المال الرقمي الذي يدربنا على كيفية السيطرة علينا.

إن العدالة الاجتماعية لا يمكن تصورها في عالم حيث يتم تقليص مشاريع الحوسبة السحابية إلى أجهزة آلية، في حين يعمل كل شخص -تقريباً- بالمجان كأقنان لهذه الحوسبة السحابية، دون أن يدركوا حتى إنَّ عملهم يجدد الشكل السائد لرأس المال السحابي.

هل يعني هذا أننا لا نستطيع أبداً استعادة استقلاليتنا؟

بالتأكيد لا. فنحن لم يحكم علينا بالفشل، ولكن من المسلم به أن الذي يجعلنا غير قادرين على إلغاء اختراع الذكاء الاصطناعي، أو تحطيم رأس المال السحابي بغضب ” اللاضية الجديدة neo-Luddite”، فلا يمكن العودة إلى الرأسمالية.

إذن، ماذا بعد؟

في حين تعمل الخصخصة وأصول الأسهم على تجريد كل الثروة المادية من حولنا، فإن رأس المال السحابي أيضاً يواصل أعمال تجريد أدمغتنا من الأصول، وإذا كان لكل منا فرصة نستعيد بها ملكية عقولنا، فيتعين علينا أن نتولى ملكية رأس المال السحابي على نحو جماعي، بدلاً من الخضوع لقلة من السادة الإقطاعيين.

سوف يكون أمراً صعباً للغاية، ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تحويل أدواتنا السحابية من وسيلة لتعديل السلوك إلى وسيلة للعتق والاستقلالية.


 (*) “يانيس فاروفاكيس” خبير اقتصادي، وزير المالية اليوناني السابق وعضو البرلمان اليوناني.